هناك من يقول إن (الشعر ديوان العرب)، لكنني أقول إن (الرواية ديوان العالم). فمن خلال الرواية، ذات الخصوصية العالمية، يتعرف القارئ على العالم الذي صدرت منه. فأنت ستعرف يوغسلافيا من خلال (جسر على نهر درينا)، وعلى روسيا من خلال الحرب والسلام والحاج مراد والأبله والجريمة والعقاب والأم وأرخبيل الغولاغ وغيرها من أمهات الرواية الروسية، أما المجتمع الأمريكي ففي روايات جون شنتانيك وارسكين كلودين ومارك توين فوكز وهمنجواي وغيرهم، وفي المجتمع الإنجليزي هناك معلمون كبار مثل ديكنز وجيمس جويس وفرجينيا وولف وحتى أغاثا كريستي. وإذا أردت أن تعرف حجم الدمار الصحي والنفسي والعمراني، فعليك بروايات نقلت أجواء الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، مثل الطاعون للروائي الفرنسي - الجزائري ألبير كامو. حتى المجتمع الإيراني بفسيفسائه المتنوعة الأجناس والأعراف والعقائد سوف تجدها في روايات كثيرة، من حسن حظنا أنها بدأت تترجم منذ سنوات. وعالم البحار بكل أهواله لن تجد من صورة أبرز تصوير مثل (اللورد جيم) و(موبي ديك).
لكن السؤال الذي يؤرقني هو: ما هي الروايات التي عندما تقرؤها تشم رائحة القاهرة ودمشق وبغداد والرياض وصنعاء وغيرها من المدن والقرى العربية؟ وسوف تجد أنها قليلة وباهتة، باستثناء روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وفؤاد الدكرلي ويحيى حقي وزيد مطيع دماج. أما محلياً -فللأسف- ما زال الطريق طويلاً، فالروايات المحلية نادراً ما تهتم بالمكان، نادراً ما تهتم برسم الشخصية، حتى أن جل الروايات المحلية من الممكن أن تضع عليها أي هوية، طالما الشعار أن الهموم الإنسانية واحدة في كل زمان ومكان! لم أعرف البحر ولم أركب السفن، لكنني عندما قرأت (موبي ديك) للأمريكي (هيرمان ملفل) شعرت وكأنني هناك في قاع البحر مع ركاب السفينة وأهوال من البحر وجذره، ومخاطر أسماك القرش والآلام والأحداث التي تصطرع داخل سفينة تخوض عباب البحر بكل أهواله وآلامه ومفاجآته!
أما القاهرة بأزقتها وحاراتها وأطعمتها ومبانيها فقد عرفتها من خلال مجموعة كبيرة من روايات نجيب محفوظ على رأسها (الثلاثية) الرواية التي قرأتها بصبر ودأب شديدين. وبالمقابل لم أعرف مكة وأحس بها كمدينة إلا عندما قرأت (سقيفة الصفا) للمرحوم حمزة بوقري، رغم بساطة أسلوب هذه الرواية، لكنها عموماً رواية هامة، وربما ذلك ما دفع إلى ترجمتها للغة الإنجليزية. أما الجنوب بكل الأمة وتقلباته فلم أجد مبضعاً أدق من مبضع عبده خال لتشريحه ونشره في الآفاق، عبده خال صادق الحس وباريته يشتغل أكثر في هذا المجال، فأمامه كنز كبير لم يستفد منه أحد!
وفي المجمل تظل الرواية المحلية فقيرة ربما لأننا سكتنا دهراً ونطقنا قهراً، من العادات والتقاليد التي تجعل بعض الروائيين يتفننون في أبعاد كل ما من شأنه الدلالة على الأماكن والشخوص وبعض أو كل العادات والتقاليد التي تنتصب أمامهم مثل المتاريس. ولعل العودة إلى بعض روايات الرواد تعطينا نموذجاً عن هكذا حذر..
لنقرأ الروايات العظيمة بحق، فبين طياتها معلومات ولواعج وصور وتحليلات تحتاج إلى موسوعي ليلم بها في شتى العلوم!