تابعت منذ زمن وما زالت أتابع ما كُتب وما يكتب عن لجان المناصحة هجوماً ودفاعاً، وعجبت بحق من كتاب معروفين يختزلون هذا المشروع الديني والوطني الرائد في أشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة ولا يعدون كونهم ضمن منظومة الدعاة والأكاديميين المشاركين في هذا البرنامج الوطني المهم والإيجابي بوجه عام
****
ليس في نظر السعوديين فحسب بل في نظر المراقبين والراصدين الخارجيين العاكفين على قراءة حركة الإصلاح وإعادة التأهيل لمن ولج دهاليز الإرهاب المظلمة وتبنى الفكر التكفيري ومارس الغلو والتطرف من أبناء هذا الوطن المنتمين لقبائل وأسر تعيش بيننا وتحمل هم الوطن كما نحمله، والدافع لهؤلاء المهاجمين قد يكون تصفية حسابات شخصية أو ربما الانتصار لتيار على آخر ودليلهم في هذا حالات فردية لا يمكن القياس عليها، وآخر ما اطلعت عليه في هذا الباب ما نشرته مجلة أحد الأندية الأدبية التي تحضا بالحصانة الذاتية مثلها مثل جميع ما يصدر من هذه المؤسسات الثقافية المهمة، فهي كغيرها لا تخضع مادتها للمراقبة وربما لا يعرف عنها البعض من المسئولين في وزارة الثقافة والإعلام شيئاً إلا إذا وصلتهم على سبيل الإهداء ومن باب المجاملة.. لقد استضافت المجلة كاتباً سعودياً معروفاً قال عنه المحاور أنه (أحد الكتاب البارزين الذين يحاولون أن يؤسسوا لفكر تنويري مختلف في خضم الرؤى التقليدية والظلامية المهيمنة على الفكر العربي والمحلي!!...) وقال هو عن الفرق التي شُكلت لمناصحة المقبوض عليهم من الفئة الضالة أنها غير قادرة على إزالة تلك الأفكار التي يعتنقها المتطرفون لثلاثة أسباب:
الأول: المتطرف ينظر إلى الحكومة باعتبارها خصمه الأول، بل المتطرف يعلن أنه في حالة حرب مع الحكومة، وهنا المأزق، فالفرق التي تشكلت هي فرق حكومية ولا عيب في ذلك من حيث الأساس لكن المتطرف يصعب عليه الوثوق - فضلا عن الاقتناع - بأناس موظفين في الحكومة التي يحاربها. إن المتطرف ينظر إلى هذه الفرق التي تشكلت على أساس أنها جزء من الجبهة التي يحاربها، إذا فكيف يمكن أن يقتنع بكلام أحد أفراد الجبهة، ولهذا فالمناصحة لا بد أن تكون من طرف ثالث محايد!! ولا أدري من هو الطرف الثالث المرشح لدى الكاتب للقيام بهذا الدور المهم والذي قلبه على مصلحة الوطن وأبناء الوطن أكثر من مقام وزارة الداخلية (الشؤون الأمنية) التي تقف خلف هذا المشروع المهم، وتختار من ترى فيهم الكفاءة والدراية للقيام بهذه المهمة الصعبة، ولا أعتقد أن الحرب التي يعلنها المتطرف مع الحكومة وعلمائها وموظفيها أشد من الحرب التي أعلنها خصوم هذا الدين المعروفين والمعلنين المواجهة والقتال على رؤوس الأشهاد منذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحتى اليوم ومع ذلك حاور -عليه الصلاة والسلام- من جاء ليقتله وهو جالس بين أصحابه فأسلم، وأسلم عمر بن الخطاب وهو متوجه لقتل أخته التي صبأت، وعاد جمع كثير من الخوارج على يد ابن عباس -رضي الله عنه- وهو محسوب على الحكومة آنذاك، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وهداية الدلالة والإرشاد واجب شرعي وهدية التوفيق والعودة لجادة الصواب بيد الرحمن، والواجب بذل الأسباب والتوفيق بيد الله.
الثاني: هذه الفرق لا يوجد فيها أناس لهم تاريخهم من الوثوق العلمي حتى في تاريخ المنظومة التقليدية لهذا فهم مجرد (وعاظ) يحسنون الوعظ ولا يحسنون النقاش العلمي والإقناع الجدلي!!، هؤلاء المتطرفون الإرهابيون لم يقتنعوا بالإرهاب من مجرد موعظة عابرة وإنما من خلال دروس ونقاشات تتكئ على المقولات السلفية التي يرونها مسلمات وثوابت إيمانية لا يجوز مجرد النقاش فيه، ويمكن إيجاز الرد على هذا التعميم فيما قاله مدير العلاقات العامة في وزارة الداخلية، والذي نصه: (لقد نشأت لجنة المناصحة بناءً على فكرة من لدن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية ونالت الدعم والتأييد من لدن سمو وزير الداخلية وسمو نائبه وهي تتكون من ثلاثة فرق رئيسة الأول الفريق العلمي ويعنى باختيار المشايخ وتشكيل اللجان الشرعية لمناصحة الموقوفين وكذا اختيار المادة العلمية للدورات العلمية التي تقام في أماكن توقيف المتورطين بقضايا فكرية والفريق الأمني ويعنى بكل ما يخص الجانب الأمني للموقوفين والفريق النفسي والاجتماعي ويعنى بتلمس احتياج الموقوفين بهذا الشأن، وتتم مناصحة الموقوفين يومياً حيث يتم الالتقاء في كل جلسة مع موقوف واحد فقط غالباً لتمكينه من الحديث بحرية تامة دون مؤثرات سلبية قد توجد في حالة تعدد الموقوفين، علماً أنه قد يكون هناك لقاء جماعي بأكثر من موقوف وقد كان هناك تخوف من قبل الموقوفين في البداية ظناً منهم أن لها ارتباطا بالتحقيق أو أنها ستعود عليه بجوانب سلبية إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أنها تصب في صالحهم وبدأوا بالتنافس والتسابق لحضور جلسات المناصحة لما لمسوه من شفافية وصدق في الطرح الشرعي والعلمي الهادف للوصول إلى الحق فيما علق بأذهانهم من أفكار مغلوطة جاءت نتيجة للتغرير والتحريض والحجر الفكري الذي كانوا يتعرضون له من المحرضين وكذلك الفهم الخاطئ لبعض النصوص وحملها على ظاهرها دون الرجوع إلى العلماء الراسخين لبيان المدلولات الصحيحة لهذه النصوص ويتم ذلك في مكان مناسب في السجن يتناول فيه المجتمعون المرطبات والشاي والقهوة، وتبدأ الجلسة بعد الترحيب المتبادل بالتعرف على قضية الموقوف ومدة إيقافه وملابسات قضيته ومن ثم عرض ما لديه من تساؤلات شرعية ويتم الإجابة عليها من قبل المشايخ متيحين له الفرصة للنقاش والحوار في جلسة تسودها المحبة والصدق في الرغبة للوصول إلى الحق والإذعان له، ومن ثم يتم التشاور بين المشايخ في الحكم على فكر الموقوف والتوصية بشأنه بما تبرأ به الذمة.. وبحمد الله أتذكر أنه عندما بدأت لجنة المناصحة كان البعض من الموقوفين يرفض مقابلة العلماء على اعتبار أنهم كفار أو مداهنون أو علماء سلطان ولكن بحمد الله بدأوا يتقبلون المناصحة شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تنتهي جلسات المناصحة بالأحضان والدموع والندم والعزم على التوبة، ومثل هذا الكلام أو قريب منه ورد على لسان مدير عام التوعية والتوجيه في وزارة الداخلية. وسمعت من أصحاب المعالي والدعاة المنتظمين في لجان المناصحة منذ البداية مثل هذا القول سواء في جلسات خاصة أو في ندوات ومحاضرات عامة، أما عن السبب الثالث فهو ذو صلة بالمسلمات العقائدية في المنهج السلفي الصحيح والحديث فيه يطول وربما احتاج إلى رد مفصل أتركه للمستقبل، وأسأل الله لنا ولصاحب هذا الفكر ومن هم على شاكلته الهداية والتوفيق وأن يرينا سبحانه وتعالى الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، آمين.