كان الحديث في الحلقة السابقة عما حدث في اليوم الأول من الزيارة لحضرموت، وكما كان ذلك اليوم حافلاً بزيارة عدد من الأمكنة الآثارية في تلك البلاد، وممتعاً بما هو شيِّق من ضروب النشاط، كان اليوم الثاني من تلك الزيارة حافلاً، أيضاً، بمواصلة زيارة أمكنة آثارية أخرى، ومشتملاً على نشاط ثقافي وفني.
في الصباح توجَّه الجميع بحافلة إلى مديرية شبام ووادي دوعن. وبلدة شبام بلدة عريقة، أُنشئت - كما تذكر المصادر - قبل مولد المسيح عيسى عليه السلام. وما زالت بيوتها أو عماراتها، التي يصل بعضها إلى سبعة أدوار مع أنها مبنية من الطين، باقية تحكي عظمة بُنَاتها. وهندسة بناء تلك البيوت، أو العمارات المتراصة هندسة فريدة لا يملك المشاهد لها إلا الإعجاب بمن شيَّدوها. ومما هو جميل، يبعث السرور في النفس، أن هناك جهوداً جادة تبذل لترميم تلك البلدة العريقة، وذلك بالتنسيق والتعاون بين الجهات المحلية، حكومية وغير حكومية، والمؤسسة الألمانية للتعاون الفني GTZ التي تنفذ مشروع (تنمية المدن التاريخية اليمنية) نيابة عن الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية. ولا يقتصر المشروع على ترميم المباني الموجودة هناك؛ بل يمتد إلى إحياء العادات والمهارات القديمة، وتشجيع المهن الفنية والحرف اليدوية بين السكان من جديد. وقد نجح الأسلوب المتبع؛ حيث أقبل السكان، مسنين وشباباً، على مزاولة تلك المهن والحرف، وخطوا خطوات ناجحة في ذلك السبيل، وأصبحوا مقدَّرين في المجتمع، وأسسوا جمعية خاصة بهم من أجل الحفاظ على المعرفة التي اكتسبوها.
والتجوال في وادي دوعن كان فرصة طيبة للتمتُّع بما فيه من مناظر جميلة أغلبها عذراء. وكون المرء هناك لا بد أن يخطر على باله عسل دوعن الذي يُعدّ من أحسن أنواع العسل وأغلاها ثمناً. ولأنه كذلك فقد كان من بين ما تفضَّل به الشيخ عبدالله بقشان على مائدة الغداء السخية بما لذَّ وطاب في قصره العامر بخيلة بقشان. وبعد استراحة في ذلك القصر الجميل بمن فيه وما فيه تحرَّك الزائرون إلى مدينة المكلاَّ، حيث وصلوا إليها بعد غروب الشمس. ومما يلحظه الزائر لتلك المدينة قِلَّة وجود النساء في أسواقها التجارية، واحتشام من وجدن في تلك الأسواق، لباساً وتحرُّكاً.
وفي المساء سعد الجميع وابتهجوا بما تمَّ في قصر الشيخ عبدالله بقشان بالمكلا من أداء أنواع من الفن التراثي الحضرمي الجميل. ولولا أن برنامج الرحلة يقتضي السفر صباح اليوم التالي مبكراً إلى جزيرة سقطرى لكان من المحتمل جداً أن يمتد التمتُّع بتلك الأنواع من الفن التراثي الأصيل.
وفي صباح اليوم الثالث من الزيارة لحضرموت أقلَّت الجميع طائرة خاصة من مطار الريان بالمكلا إلى سقطرى التي تبعد عنه حوالي ستمائة كيل جواً.
ومساحة الجزيرة 3600 كم2، وطولها يزيد قليلاً على ثلاثة أضعاف عرضها، وسكانها حوالي خمسة عشر ألف نسمة فقط؛ بعضهم من أصول عربية وبعضهم الآخر من أصول إفريقية، وبين الفئتين امتزاج وتصاهر.
وفي الجزيرة كثير من الأشجار والنباتات التي يقال: إنها لا توجد في أي مكان آخر سواها. ومن تلك الأشجار شجرة تسمَّى دم الأخوين، وشكلها فريد جميل، غصونها متقاربة تكاد تكون متراصة متجهة إلى الأعلى. وإذا شُق أصلها بسكين أو نحوها استخرج من داخله حبيبات يقال: إنها توقف نزف الدم.
وفي جزيرة سقطرى مغارات تمتد إحداها بضعة أميال. ومن الممكن جداً أن يستفاد مما تميزت به تلك الجزيرة من موقع استراتيجي مهم، ومن وجود أشياء نباتية وطبوغرافية نادرة؛ لتقام عليها مشروعات تنموية وسياحية تعود على أهلها بخاصة وعلى إخوانهم من سكان ذلك القطر العربي بخير وفير.
ولقد تناول الجميع غداء شهياً في تلك الجزيرة، ثم غادروها عائدين إلى المكلا. وفي مساء ذلك اليوم كان هناك لقاء أدبي ثقافي في نادي اتحاد الأدباء في تلك المدينة. ومما تمَّ فيه إلقاء محاضرتين، إحداهما ألقاها الدكتور محمد بلحاج عن حضرموت، ماضياً وحاضراً، وثانيتها ألقاها الدكتور عبدالرحمن الشبيلي عن كتابات الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، عن اليمن وعلمائها. وفي صباح اليوم التالي كانت العودة بسلام إلى عروس نجد (الرياض) المتألقة نهضة ونشاطاً.
وبما أن كاتب هذه السطور من المشتغلين بالتاريخ فإن مما يسعده الإشارة إلى كتابين صغيرين في حجميهما نسبياً كبيرين في فائدتيهما عن تاريخ حضرموت. وعنوان الأول: (تاريخ ما أهمله التاريخ.. لمحات من تاريخ جزيرة سقطرى)، وعنوان الثاني: (المختصر في تاريخ حضرموت العام). وكلاهما تأليف المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف. ومما أورده في الكتابين حديث عن الغزو البرتغالي لتلك البلاد، وما لقيه الغزاة من مقاومة؛ فقد صدهم المقاومون البواسل عن عدن سنة 923هـ، ثم قاوموهم مقاومة باسلة في الشحر سنة 929هـ. وفي أثناء هذه المقاومة استشهد سبعة من قادة المقاومين، بينهم فقهاء ومشايخ.
ومن المعروف أن عرب الجزيرة العربية - على العموم - قد قاوموا الغزو البرتغالي. ومن أمثلة ذلك مقاومة مقرن بن زامل، أمير شرقي الجزيرة، الذي استشهد دفاعاً عن وطنه عام 927هـ. فرحم الله أولئك الشهداء رحمة واسعة.
ومما أورده المؤرخ بامطرف في كتابه (المختصر..) غزو أتباع الدولة السعودية الأولى لوادي حضرموت مرتين. كانت الأولى بمثابة استطلاع سنة 1221هـ، والثانية عام 1224هـ. ومما قاله عن الغزوة الثانية: (ناصرتهم جماعات كبيرة حضرمية من قبائل نهر ويافع والنفر الناقمين على الخرافات الصوفية في حضرموت.. وقد هدم الوهابيون (هكذا) كل قباب القبور الموجودة في تريم.. ومكثوا في وادي حضرموت زهاء أربعين يوماً.. وهم الذين حفروا بئر عساكر المشهورة في الأطراف الشرقية لرملة السبعتين، وهم الذين مهدوا الطريق المعروفة بدرب الأمير (قائد جيشهم) الواقعة في منطقتي الصيعر ودهم في أطراف الصحراء).
وقبل اختتام الحديث يسعد كاتب هذه السطور أن يشير إلى (مؤسسة الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين) التي من بين لجانها لجنة الطبيب الزائر الهادفة إلى مساعدة المحتاجين للخدمات الطبية، وقبول الطلاب لمتابعة دراستهم في جامعات حضرموت، وخلق روابط بينهم داخل كلياتهم. وتصدر المؤسسة المذكورة مجلة اسمها (شعاع الأمل) تعنى بإبراز دورها في تنمية المجتمع، كما تعنى بالتراث والموروث الشعبي، وتمثِّل جسراً للتواصل بين أبناء الوطن في الداخل وفي مواطن الاغتراب.
وفَّق الله العاملين لخير أمتهم وسدَّد خطاهم.