سمعت مرة الكاتب المصري أنور عكاشة يقول بكل فخر واعتزاز أنا من أحفاد تحتمس. في حينها كنت أعرف أن هناك شخصية تاريخية بهذا الاسم، ولكني لا أعرف أي شيء يمكن أن يدفع إنساناً أن يتفاخر بالانتساب إلى هذا التحتمس. وسمعت أيضاً كاتباً لبنانياً يقول ما يشابه ذلك منتسباً إلى الفينيقيين.
ظهر هذا النوع من التفاخر بعد أن شاعت قيم الهزيمة وتراجعت حكاية الوحدة العربية وخفتت صرخات العروبة. لا هذا يعيني ولا الآخر، ولكن ما يعنيني هو أن هذه التفاخرات لا تظهر إلا عندما تكون هناك قضية سعودية قيد التداول. توحي مثل هذه التفاخرات كأنما السعودية هي الداعية والمنادية بحكاية الوحدة العربية أو كأن السعودية تفاخر عليهم بقيم العروبة، أو كأنهم يقولون إننا وحدنا من يتجاوز قيم العروبة والإسلام عمقاً في التاريخ. أما عندما يأتي الكلام عن دبي ونهضة دبي تمغصهم بطونهم فتظهر علينا حكاية العمق الثقافي بمرارة أشد. القاهرة وبيروت تتمتعان بعمق ثقافي تفتقر إليه دبي والمدن الخليجية. عجزت لا أفهم هذا الكلام. عندما أتجنب هذه الكتب الهزيلة التي تصدرها بعض العواصم العربية وصراخ المثقفين المرتزقين والسباب والشتائم التي يوجهونها للسعوديين والخليجيين لا أجد في معظم هذه المدن سوى بواري سيارات تخرم الآذان، واختراق لإشارات المرور ومطاعم تجعلك تصرف يومك كله في الحمام، وتلوث في الهواء يكاد يخنق أنفاسك، وسيارات مهترئة تجوب الشوارع ينافسها جيوش من الجياع والشحاذين البؤساء، أما الكهرباء وهي رمز التنمية لا تكاد تبدأ حتى تنقطع. ما الذي قدمه تحتمس والفينيقيون وغيرهم من أشباح الماضي لإنسان اليوم؟
أعرف العمق الحضاري وأقف له احتراماً عندما أطل على سوق المال في لندن الذي تجاوز عمره أربعمائة سنة، وما زال من أكبر أسواق أوروبا والعالم وأكثرهم تأثيراً في الاقتصاد الكوني. فالعراقة لا تعني الموت بل تعني الحياة المتدفقة المتطورة والخبرة ومزيداً من السيطرة. أعرف أن العمارة التي بنتها فكتوريا قبل قرن من الزمان مازالت على جمالها وعظمتها كما بنتها فكتوريا لا مبنى غارقا في مجاريه يهدد سكانه بالفناء. أعرف أن قطار النفق الأرضي في لندن شيد قبل أكثر من مائة وخمسين سنة وما زال أرقى وأجمل وأنظف خط قطار في العالم، وما زال أكبرها أيضاً.
العمق الثقافي هو تلك الحضارة المستمرة والمتطورة التي تنعكس على أهلها رفاهية وقوة وعظمة وسيطرة لا مجرد حنين لماض مات (وشبع موت!) لا يترك لأصحابه إلا الأذى والتعطل. العمق الثقافي هو مكانك في هذا العالم وتأثيرك عليه لا أحجار مرصوصة يصور إلى جانبها السياح أو أخبار من الماضي تختلط فيها الحقائق بالأساطير.
مع الأسف أسمع بعض السعوديين يصدقون أساطير العمق الثقافي لبعض المدن العربية ويرددونها كما يرددها الفاشلون والحالمون والحاقدون من أهلها.
فاكس 4702164
yara.bakeet@gmail.com