البعض يلوم النساء عندما يجعلن قضية قيادة المرأة للسيارة، أحد مطالبهن الرئيسة في قائمة الحقوق، بل البعض يجدها قضية هامشية مقارنة بغيرها من القضايا المحورية التي تتعلق بصلب حقوقهن سواء الشرعية منها أو حقوق المواطنة.
لكن بتقليب هذا الموضوع من جميع جوانبه نجد أن قيادة المرأة للسيارة لا تعني فقط مركبة تنقلني من مكان إلى آخر بدون واسطة سائق أجنبي، ولكنها تؤكد وترسخ تواجد النساء في الفضاء المدني بشكل طبيعي وفاعل ومنتج، وقبل هذا كله يقودنا إلى احترام سيدة غادرت منزلها، لأهداف كبيرة على رأسها تحقيق إنسانيتها وتأكيد كرامتها واستقلاليتها، عبر الاندماج في مشروع تنموي ونهضوي كبير، اعتادت في السابق أن تراه يمر أمامها وهي قابعة في صفوف المتفرجين، لا يطالها منه سوى الفتات، أو مداخل الأبواب الخلفية، لذا ونحن على أعتاب مرحلة إصلاحية كبرى تحتم مشاركة المرأة في المحيط المدني عبر العمل والقرار، تصبح قيادتها للسيارة هي درجة مبدئية أولى تصعدها نحو طموحات كبيرة وشاسعة.
إن جلوس المرأة خلف مقود السيارة هو ترميز لتمام سيطرتها على مقود مصيرها، دون أن تكون أداة تتناهبها الوصاية والأفكار الفوقية المقسرة على مصيرها.
ويبدو أن المناخ الاجتماعي الآن بات جاهزاً لقطف الكثير من النضالات والجهود التي بذلتها النساء في سبيل الوصول إلى حقوقهن المدنية الأولية في التنقل من طرف المدينة إلى طرفها الآخر بأمان وهن تحت مظلة رسمية توفر لهن الحماية والدعم.
ولن ننسى في هذا السياق تعليق أحد شيوخنا الأفاضل في مؤتمر الحوار الوطني الخاص بالمرأة، الذي قال فيه بما معناه (لو كنت أضمن أن جميع النساء اللواتي سيقدن السيارة لهن نفس الوعي والعقل الذي يقارب من سمعتهن لقلت بجواز قيادة المرأة للسيارة من الغد).
ومن هنا تتبدى لنا القضية أنها في غالبها تتعلق بالجناح القصي الغامض والمظلم الذي تقبع داخله النساء، حيث المرأة خاضعة لجميع الهواجس والأخيلة والظنون التي تطوقها من الآخرين، وهذا أيضاً الذي يجعل منها كائناً دونياً تُسقط عليه القوانين بشكل فوقي تسلطي، دون أن يكون لها مساحة للمناقشة أو حتى إبداء الرأي، نظراً لعلة قصور أبدي مسبق يراها البعض في هذا المخلوق.
فالمرأة لدينا - على الغالب - لها تواجد في الفضاء الاجتماعي عبر غيرها لا بذاتها وتمام هويتها الإنسانية، فهي إما ابنة لفلان أو زوجة لفلان أو أم لفلان، ومن هنا تغيب الذات والإرادة الإنسانية وتستبدل بذات ذكورية لا تتحقق إلا بها.
ونعود لقضية قيادة السيارة، ونعلم بأنها تقبع في آخر قائمة مطالب المرأة، إلا أنها في الحقيقة هي ترميز عميق لسيطرة المرأة على مصيرها وقرارها، مع احترام لذاتها وإرادة الفضيلة والالتزام النابعة من أعماقها، والعاكسة لطبيعة البيئة التي خرجت منها، وليس مرغمة عليها إرغاماً من قبل الغير.