تُرى ما الذي دفع الصين إلى التعامل مع التيبت على ذلك النحو الذي رأيناه منها؟ وما الذي يجعل التيبت على هذا القدر من الأهمية بالنسبة للحكومة في بكين؟ من الأهمية بمكان أن ندرك أولاً أن أخشى ما يخشاه حكام الصين أن يأتي الوقت الذي تصبح فيه وحدة البلاد مهددة. ولا شيء يقض مضجعهم أكثر من خوفهم من أن يتحول أي نزاع إقليمي إلى سبب لتفسخ البلاد، إذا لم يسارعوا إلى إخماده.
كان إعلان كوسوفو لاستقلالها من جانب واحد مؤخراً سبباً في تفاقم مخاوف الحكومة الصينية بشأن الاحتجاجات في التيبت. ورغم أن مؤيدي استقلال كوسوفو يزعمون أن استقلالها لا يشكل سابقة دولية، إلا أن حكام الصين يخشون أن يكون الأمر على العكس من ذلك تماماً. وبالإضافة إلى كل ما سبق تأتي الانتخابات الرئاسية القادمة في تايوان لترفع معدلات توتر الحكومة الصينية.
تشير استطلاعات الرأي في تايوان إلى أن عمدة تايبيه السابق ما يينغ جيو مرشح حزب الكومنتانغ (KMT) سوف يهزم فرانك هسي مرشح الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم (DPP). ولكن يخشى بعض الناس في الصين أن الرئيس الحالي تشِن شوي بيان من الحزب التقدمي الديمقراطي ربما يسعى إلى ذريعة أو حجة لمنع هزيمة المعسكر المؤيد لسيادة تايوان. فهو في الوقت الحالي يدعو إلى عقد استفتاء عام حول مسألة حصول تايوان على عضوية الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي تنظر إليه الصين باعتباره استفزازاً وتهديداً لوحدة الصين.
قد يبدو من الغريب في نظر العالم الخارجي أن تشعر الصين وكأن وحدتها بهذا القدر من الهشاشة رغم أنها لم تشهد سوى نجاحات متوالية على الصعيد الاقتصادي لمدة ثلاثة عقود من الزمان. بيد أن تاريخ الصين -القديم والمعاصر- يشير إلى أن الوحدة الحالية التي تتمتع بها البلاد ليست دائمة أو مستقرة بأي حال من الأحوال. والحقيقة أن وحدة الصين على هيئتها الحالية اليوم لم تتحقق إلا بانتصار ماو في العام 1949.
منذ عصر الولايات المتحاربة (403 -221 قبل الميلاد) إلى عصر أباطرة الحرب في القرن العشرين (1916 - 1928) - وفي العديد من الفترات بين العصرين- كانت أراضي الصين تتمزق إلى أقاليم منفصلة متنافسة. ورغم الأحاديث والتصريحات القوية عن وحدة الصين إلا أن القيادات الصينية يتملكها دوماً هاجس هشاشة وحدة البلاد، فتحرص على تقليص حدة التوتر بين أقاليمها المختلفة على نحو لا ينقطع.
الحقيقة أن فشل الحكومة في القضاء على التوترات الإقليمية المزمنة يسلط الضوء على أوجه الضعف والقصور في السلطة المركزية في الصين، والتي كانت مقصودة جزئياً. فمن بين العناصر الأساسية في الإصلاحات التي أطلقها دينغ زياوبنغ منذ ثلاثين عاماً منح السلطات المحلية المزيد من الاستقلال - وهو التحرك الذي كان المقصود منه تعزيز الشعور بالمسؤولية وخلق حوافز النمو. بيد أن بعض الأقاليم ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك. وتنعكس خسارة الحكومة المركزية للسلطة في مناشداتها المستمرة للحكومات المحلية -والتي لا تلقى صدى عادة- بالالتزام بحدود معينة فيما يتصل بالاستثمار أو ضبط معدلات التلوث.
في أي بلد بحجم الصين من المحتم أن يكون للأقاليم النائية اهتمامات مختلفة، بل وهويات مختلفة. ورغم أن قِلة من الصينيين يملكون الجرأة للتحدث عن هذا علناً، إلا أن بعض المراقبين يعتقدون أن مثل هذه الاختلافات قد تستمر في إبعاد الأقاليم عن السلطة المركزية، وأن بعض الأقاليم قد تنفصل ذات يوم عن الصين.
هذه هي المخاوف التي كانت تقض مضجع حكام الصين وهم يواجهون الاضطرابات في التيبت، رغم أن اللغة الرسمية تؤكد أن لا شيء يهدد وحدة الصين، وأن كافة طوائف الشعب الصيني، بما في ذلك الطوائف غير الصينية في الأقاليم الملحقة، مثل التيبت ومنغوليا الداخلية وزينجيانغ، تخلص الولاء والتأييد للنظام الحالي. إلا أن حرص الحكومة على تغيير القيادات المحلية على نحو دوري ينبئنا بقصة مختلفة. وحرصاً على منع أي اندماج بين الهوية الإقليمية والسلطة المحلية، تعمل الحكومة الصينية على تغيير كبار المسؤولين في مناطق الصين العسكرية السبع بصورة دورية.
من قبيل الاحتياط أيضاً، تحرص الحكومة المركزية على تشكيل المناطق العسكرية على النحو الذي لا يجعلها تتداخل مع التقسيمات الإقليمية الطبيعية أو الاقتصادية. وهذه الترتيبات مصممة بحيث تعمل السمات الإقليمية العسكرية والاقتصادية للمناطق المختلفة على إلغاء بعضها البعض. إلا أن هذا يعكس أيضاً خوف الحكومة الصينية الدائم من أن تؤدي التوترات الإقليمية إلى انقسامات على المستوى الوطني.
بيد أن كل هذه التدابير الاحتياطية تعجز عن تلطيف مخاوف القيادات الصينية بشأن الصراع الدائر في التيبت، وخاصة في ضوء الأحداث الأخيرة في كوسوفو وتايوان. من حيث المبدأ بطبيعة الحال، قد لا يكون النزاع بين تايوان والبر الرئيسي أمراً محتوما لا مفر منه. ففي ظل التغير المستمر في الصين وتنامي الصلات والارتباطات الاقتصادية والاجتماعية عبر المضيق، يصبح في الإمكان التوصل إلى صيغة تسمح لتايوان بالاحتفاظ باقتصاد السوق ونظامها الديمقراطي دون الحاجة إلى عضوية منفصلة في الأمم المتحدة.
تعود الغرب على رسم خطين واضحين في التعامل مع تايوان: لا استقلال لتايوان ولا استخدام للقوة من جانب الصين ضد تايوان. ولكن بعد استقلال كوسوفو رغماً عن إرادة صربيا، ودون التعرض لعقوبات من الأمم المتحدة، أصبح هذان الخطان مشوشين في نظر الصين.
الحقيقة أن العالم يجازف بالكثير حين يضفي نوعاً من الغموض على قضية كانت ذات يوم تتسم بالوضوح الشديد. فمنذ خمسة وثلاثين عاماً، وفي تصرف يدل على البراعة السياسية، وقع زاو إن لاي وريتشارد نيكسون على تفاهم شنغهاي، الذي حدد المعيار الواضح التالي: (الصين واحدة، وتايوان جزء لا يتجزأ منها). الحقيقة أن طمأنة الصين إلى أن وحدتها لن تتعرض للتهديد تتطلب إعادة التأكيد على هذا التفاهم على نحو لا لبس فيه، وخاصة من جانب الولايات المتحدة في ضوء الدور الذي لعبته كداعم رئيسي لاستقلال كوسوفو.
ليس للغرب أي مصلحة في مساعدة التيبت أو تايوان في الاستقلال عن الصين، والجهود التي يبذلها بعض أهل التيبت وتايوان في هذا الاتجاه تحمل في طياتها خطر الوقوع في حسابات خاطئة قد تؤدي في النهاية إلى عداوة دائمة. يرى بعض الصينيين أن الولايات المتحدة ترغب في استقلال تايوان لاستخدامها (كحاملة طائرات غير قابلة للغرق) ضد العدو الصيني المحتمل في المستقبل. وقد تؤدي مثل هذه الشكوك إلى تغذية مناخ الغلو في النزعة القومية في الصين.
يتعين على الصين والغرب الآن أن يحرصا على عدم السماح للمخاوف المبالغ فيها بالتحول إلى نبوءات قد تتحقق. ولا ينبغي لنا أن ننظر إلى الأحداث في التيبت بمعزل عن الظلال المتخلفة عن قضيتي كوسوفو وتايوان.
* وِن لياو محام صيني يزاول مهنته
مع شركة تابعة للولايات المتحدة في لندن.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008. - ( خاص بال الجزيرة )
www.project-syndicate.org