من البديهيات أن الأمة التي تستمر في التاريخ هي التي تمتلك منظومة قيم ومعرفة؛ أي منهجاً فكرياً لفهم الواقع وحل مشكلاته والمحافظة على الوجود، والإطلال من خلاله على المستقبل، والمساهمة في رفد الحضارة الإنسانية بما هو مفيد، والأمة العربية لها من التاريخ ما هو معروف.
ومن الإسهام الحضاري والإنساني الكبير في حياة البشرية ما هو موثق ومرصود، ومن مقومات النهوض المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا والإمكانيات الذاتية ما يستحق قراءة واقعية عقلانية له وطرد اليأس، لكن مع كل هذا للأسف ولعوامل كثيرة يُراد لهذه الأمة أن تبقى أطلالاً فكرية وثقافية وبشرية لمرحلة مضت وأمة أو بقايا أمة اندثرت وأصبحت خارج الزمن والتاريخ.
الأمة العربية التي خرج منها مخزون الحضارات والقيم الروحية والأخلاقية والعلمية، ومن رحمها ولدت العقلية الغربية الثقافية والفلسفية، التي كانت الأساس لبناء وتقدم العالم الحديث، هي الآن على مفترق طرق معرفي وحضاري، مضطربة لا تستطيع أن تحدد بأي اتجاه تسير، مسلوبة الإرادة مفككة ضائعة وتائهة، تعصف بها أعاصير تهز عقلها ووجدانها، وتهدد هويتها وثقافتها وجغرافيتها.
إن ما يدعو إلى التفاؤل قليلاً هو هذا الاهتمام الوليد الحديث بالتقنية وبمخرجاتها، سواءً على مستوى الدولة بجميع مؤسساتها، أو حتى على مستوى الأفراد من خلال إدراكهم للأبعاد المعرفية والعلمية والتاريخية للأخذ بأساليب التقنية الحديثة؛ فقد شاهدنا وشهدنا اهتماماً واسعاً بإنشاء الجامعات والمراكز العلمية وتسابقاً غير مسبوق نحو دعوة الجامعات المرموقة لدخول منطقة الخليج العربي والاهتمام بتكريم مَن أحدث نقلات نوعية في استخدام التقنية الحديثة من خلال التحول الإلكتروني في جميع مجالاته.
بيد أن المؤلم حقاً هو بقاء هذا الاهتمام قيد الاستخدام والاستهلاك فقط دونما المشاركة الحقيقية في تطور التقنية. والمقلق أن المسارات متشابهة لدى معظم العرب بأسلوب الهرولة نحو التقدم العلمي الاستهلاكي، والمقلق أن تكون النتائج بذات التشابه فنبقى كعرب مستهلكين غير صانعين للتقنية.
وهنا أكرر القول إنني مدرك تماماً أن هناك من يريد للأمة العربية أن تبقى أسيرة هذا المفهوم، مستعبدة علمياً وتقنياً، يراد لها أن تبقى تهتم بالشعارات القومية والخطابات السياسية العقيمة والثورات الدينية الاختلافية؛ حتى لا تقوم لها قائمة ذات يوم، في الوقت الذي يسير فيه الغرب مهرولاً نحو تحقيق المزيد من النجاحات والثورات التكنولوجية الهائلة التي يتم تصديرها تباعاً وبأسعار خيالية لنا كعرب مستهلكين.
لن أخوض في الأزمنة الفاصلة بين اكتشافات الغرب ووصول تلك الاكتشافات لنا في عالمنا العربي؛ أي بين زمن صناعة ما وزمن تصديرها لنا كعرب، ولن أخوض في البيئة التي تمت صناعتها لخروج تلك الاكتشافات، ولا حتى في الدوافع الحقيقية خلف تلك الصناعات، لكنني بسذاجة بالغة أسأل: متى سيأتي اليوم الذي نعيد فيه أمجاد أمتنا العربية ونبدأ عملياً وفعلياً تصدير التقنية الحديثة للغرب؟ مجرد سؤال.
dr.aobaid@gmail.com