الذين يرفضون نقد أو حتى مناقشة ظاهرة (صور السعوديات) في وسائل الإعلام، سواءً الصور الثابتة (الفوتوغرافية) كما في الصحافة، أو (المتحركة) كما في القنوات الفضائية، أو هذه وتلك كما في الشبكة العالمية (الإنترنت)، ينطلقون من فلسفة جميلة في مبناها معبرة في معناها وهي أن العقول الكبيرة تناقش الأفكار والآراء لأنها تبحث عن الحقيقة، والعقول المتوسطة تناقش الأخبار والشائعات من أجل الترفية وحب البلبلة الاجتماعية، بينما العقول الصغيرة تناقش الأسماء والأشكال لأنها تفتقر للثقافة وتعجز عن حوار الفكر، لهذا فمن الموضوعية العلمية والنزاهة الفكرية أن تناقش فكر الشخص المثقف وتحلل رأيه رغبةً في الرد عليه أو موافقته، خاصةً إذا كان (كاتباً) معروفاً أو (أستاذاً) مرموقاً، دون التعرض لشخصه أو هيئته أو شكله، لأن ذلك يعني عجزك فكرياً عن مواجهته أو تفنيد حججه، وبهذا فضحت نفسك وكتبت هزيمتك الحوارية دون أن تدري، ولكن السؤال الذي يبدو منطقياً هو: إذا كانت تلك الفلسفة التصنيفية معقولة في حق الكاتب فهل تنطبق على الكاتبة؟ سواءً كانت أستاذة أكاديمية أو أديبة أو شاعرة أو غير ذلك، ممن يمتهن الكتابة الصحافية ويمارسن الظهور الإعلامي، بحيث تكون المناقشة لفكرها دون مظهرها، رغم أن مظهر المرأة (المسلمة) قائم بالدرجة الأولى على الحجاب، بمعنى هل يمكن ربط (مظهر) الكاتبة بما تطرحه؟
برأيي القابل للنقض أن المسألة هنا تحتاج إلى بعض التفصيل في المنطلق الرئيس لها، كون الحجاب في أصله (فرض ديني) وهو سياج المرأة الأول ومعيار مرجعيتها الحضارية ونافذة تعاملها مع الآخر، وعليه يترتب طبيعة الموقف الفكري من الكاتبة أو المثقفة عموماً، فالمثقفة السعودية التي لا ترتدي الحجاب أصلاً بحجة أنه (حرية شخصية)، يختلف معها الموقف تماماً مع تلك التي ترتديه بطريقة (خاطئة)، سواءً بسبب (الجهل الديني) بشروطه الشرعية الصحيحة، أو نتيجة (قلة الوعي) في تطبيق هذه الشروط، أما التي ترتدي الحجاب بشكل شرعي بغض النظر عن الاختلاف الفقهي في مسألة غطاء الوجه أو كشفه، فهذه يمكن تجاوز مسألة حجابها ومناقشة فكرها كون المرجعية واحدة، كذلك الحال بالنسبة لمن ترى الحجاب (حرية شخصية)، فهذه يمكن مناقشة فكرها أو طرحها - بعيدا ً عن قضية الحجاب - لأن رؤيتها كشفت حقيقة مرجعيتها الوضعية (غير الإسلامية)، بين هذه وتلك تبقى المثقفة التي لديها خلل في قضية الحجاب، في كيفية التعاطي الفكري معها؟
قبل الاسترسال في هذه الجزئية تحضرني إجابة لأحد المشايخ العلماء، الذي تلقى سؤالاً من إحدى الأخوات عبر الهاتف لأحد برامج الإفتاء يبث عبر الإذاعة، وكان عن حكم لبس العباءة العمانية والخليجية.. وغيرها من تسميات تعبر عن التصاميم المختلفة للعبايات، من حيث تقيدها أو إخلالها بشروط الحجاب الشرعي، فجاءت إجابة الشيخ واضحة وقاطعة عندما أكد أن العبرة في العباءة ليس اسمها كالفرنسية، أو الخليجية، أو وصفها كالمزركشة، أو فوق الرأس، إنما في مدى موافقتها للشروط الشرعية الرئيسة للحجاب، بحيث لا تصف ولا تشف ولا تكون زينة في ذاتها أو تحمل مواد عطرية إلى غير ذلك.
السؤال السابق لا يعكس حال فئة معينة من النساء غلب عليهن الجهل في شروط الحجاب، في ظل تصاعد وتيرة الموضة وتدفق مصانع الأزياء بمختلف أنواع الألبسة حتى تاه الفهم وحار النظر بين خطوط الألوان وروعة الموديلات، ولكن هو يعكس (أزمة وعي) حقيقية لدى كثير من نسائنا المثقفات، وبالدرجة الأولى بعض (الكاتبات والإعلاميات) اللاتي يكتبن في الصحافة ويتصدرن برامج الفضائيات العربية، عندما اختزلن الحجاب في (قطعة قماش) تغطي جزءاً من الشعر، في مقابل اعتبار مظاهر الزينة (غير الرشيدة) كطبقة الأصباغ التي تملأ الوجه، والملابس غير الفضفاضة التي تجسد الجسم، من إفرازات المدنية التي لا يرفضها الإسلام (الحضاري)!!، لهذا كثر ظهورهن عبر الإعلام بتعدد وسائله، بما يشبه (الظاهرة) الملفتة، فمن كانت تتوارى عن (التصوير) غدت نجمة الفضائيات، ومن كانت تعتز بحرفها خذلها فكرها فحسبت طريق الشهرة يمر بصورتها، ومن تناقش أفكاراً إسلامية كبرى وتطرح آراء فقهية معاصرة أخفقت في أبسط أبجديات (فقه المرأة المسلمة).
حقيقةً ليس أدنى مشكلة مع ظهورهن الإعلامي أو حتى أي شعور رافض لهذا، ولكن أطالبهن بالحد الأدنى من (الفكر المنطقي) بعدم ممارسة الانتقائية الفكرية في التعامل مع المرجعية الحضارية التي يعتمدنها في معاملاتهن الدنيوية وأحكامهن الدينية، فلا تملأ الواحدة منهن الكون ضجيجاً في حديثها المشبع بحقوق المرأة في ضوء الشريعة ومكانتها في الإسلام، بينما هي تجتزئ من هذه الشريعة السمحة حكمها الجلي في واحد من أعظم فروض الإسلام في شؤون المرأة الدينية وهو (الحجاب)، فإما تلتزم الحكم الديني فيه خلال ظهورها الإعلامي بحيث يتوافق (الفكر مع الممارسة)، سواءً أخذت بالرأي الفقهي القائل بوجوب تغطية الوجه، أو كشفته عملاً بالرأي الآخر القائل بجواز الكشف دون زينة ظاهرة (مكياج) أو تبرج ممقوت (خصلات الشعر)، أو تركن إلى الرؤية المتحررة القائلة إن الحجاب (حرية شخصية)، فيتضح موقفها الفكري، ومن ثم يمكن مناقشتها أو الرد عليها، خاصة ً عندما تخوض في أمور دينية وتنصب نفسها مفتياًً عاماً للأمة.
Kanaan999@hotmail.com