|
كلما قرأت نصاً لهذا الباذخ ألماً تداعيت إشفاقاً عليه من وعيه بمدى فداحة جرحه، فبدر بن عبدالمحسن يكتب وجعه بمشرط الشعر الحاد بلا حدود، إنه البدر الذي لا يستمتع بأضوائه ولا يتمتع بموقعه ومن يعرفه عن قرب وبعمق يدرك أن هذا الرجل إنما يتجرع الحياة وكأنها دواء لا يستساغ برغم هدوئه ودماثة خلقه وحبه للناس وليس أوضح من نظره إلى سجنه الدائم (الجسد) الذي يحاصر نفسه التواقة إلى الحرية: |
تعبت أسافر في عروقي ومليت |
من جلدي اللي لو عصيته غصبني |
وها هو يعلن عن فشله الذريع باستقلال الروح والانعتاق والخروج إلى فضاء لا يتنفس من خلاله نكهة احتراقه فوق نار تعبه الأزلي وهذا يكون التسلي لا السلوان ضرب من العبث والتعالي على حقيقة أنه لا قدرة له على ذلك والأكثر ألماً أن يقف المرء في صراع مع جرحه: |
ياما تجاوزت الجسد واستقليت |
عن الألم.. لا شك جرحي غلبني |
أنا سجين الحال.. مهما تسليت |
وأنا الطليق وكل شيء قضبني |
ومن لا يغوص في نصوص الشاعر الحقيقي و(البدر) بشكل خاص ويتسرب إلى نسيجها ويقرأ ما وراء الحروف قد يقف حائراً أن يشتكي من القيود شاعر ملأ القلوب والأسماع ألهب الأكف تصفيقاً وفتح له الإعلام كل بواباته الذهبية وأعطاه الجمهور تأشيرة مفتوحة للسفر في فضاءات روحه، إلا أن له أملاً بالانطلاق إلى فضاء آخر، والأشد من ذلك هو الإدراك ألا أحد يقترب إلا لينهل من نهر القلب وجدول العمر: |
حريتي لاعل.. يا كود ياليت |
اما شفت حي جاد لي ما سلبني |
والمتوجع الذي يستر جرحه بثيابه التنكرية نهاراً ويبدلها بين ساعة وأخرى ليبدو منسجماً مع محيطه عندما يخلو بجرحه أو يخلو به جرحه - إذ لا فرق - ليله بلا نجوم ولا قمر إذ لا ضوء إلا ما تحدثه شعلة الصبر والاحتمال إذ هو والساهر الوحيد الذي يتفرج بحسرة على عمره الذي يذوب ساعة بعد ساعة. |
وليت يا ليل التباريح وليت |
اما محاني الحزن والاكتبني |
ومن خلال البيت التالي أدرك أن البدر برغم كل هذا الوهج والنجومية الطاغية والعشاق والمحبين والمجد الأدبي والإبداع يصطدم أو يصدمه وعيه بحقيقة أن لن يبقى من كل هذا الحضور من شيء وهنا أقول: فالبدر أطال الله عمره باق في الوجدان والذهن والقلب والدليل احتفاظنا (بعطني المحبة) وأخواتها منذ أن كنا على مقاعد الدراسة واستمرارنا بمتابعة وهجه الذي نراه ونحبه وإن لم يعترف هو به كعادة الكبار الذين لا يرون أنفسهم كما نراهم. |
كل السما في دفتري وان تجليت |
مثل الشموس.. غبار قبري حجبني |
لي صاحب وان ما تخلى تخليت |
لابد ما نهدم.. ولابد نبني |
ما سبق ليس دراسة للنص أو لتجربة عملاق بقامة الأمير خلقا وسموا وإنسانية وشعرا بدر بن عبدالمحسن ولكنها وقفة قصيرة مع جانب من ألمه الذي لا تكاد تخلو منه قصيدة، إنه ألم المبدع الذي يحترق به هو لنشم رائحة الجمال ونستطعم العذوبة، وذلك قدر المبدع الذي لا يملك إلا أن يمنح من روحه ما حرم من المتعة منه إنه إبداعه. |
|