لكثرة ما حولي من البشر ترسب الاعتقاد في داخلي بأن هناك هجمة بشرية تتجاوز الوصف شنها سكان مدينة الرياض على أحد المجمعات التجارية الكبيرة يوم 23 سبتمبر 2007 الذي يوافق اليوم الوطني للمملكة وكنت واحدة منهم.
في ذلك اليوم ضاق المجمع بمن فيه من عائلات وفتيات وشبان إلى الدرجة التي استدعت إغلاق كافة المداخل وإبقاء منفذ واحد للخروج وهو المخرج الرئيس. بدا الوضع مقلقاً بدرجة عالية من الناحية الأمنية، أعني في قدرة حارسات وحراس الأمن
على المحافظة على حياة الناس فيما لو حصل أي طارئ، وهذا ما أشك فيه، ففي القسم الخاص بالمرأة وفي ذلك اليوم المشهود قامت الأجهزة الأمنية داخل المجمع أو هي أي سلطة أخرى تواجدت في ذلك الوقت (الله وحده يعلم من قام باتخاذ قرار خطر كهذا) بمنع الفتيات من استخدام السلالم للصعود إلى قسم المرأة أو الخروج منه وبقي المصعد هو المنفذ الوحيد فقط للخارج!!! كما منعت السيارات أيضاً من الصعود إلى القسم لأخذ العائلات والفتيات!
وللعلم فهو مصعد واحد فقط ولك أن تتخيل مع كل هذا الحشد من النساء والأطفال والفتيات أصبح حلم الجميع هو فقط الخروج من هذا القفص المغلق، كما يمكن تصور واستعادة صور التدافع والتسابق الذي حصل على المصعد المسكين.. كما لك أن تتخيل شعبنا المتعلم الذي لم يتعود على التصرف في مواقف الاكتظاظ، كما أنه وفي الغالب لا يقيم لغير النفس الفردية شأناً وبذالك بدأت مسابقة حلى حلى يعني حللي مكان في المصعد!
وهنا لا يهم أين تكون المهم أن العائلة والقريبات والصديقات سيتسابقن للتدافع ولمحاولة الفوز بموطئ قدم!
طبعاً وعند وصول المصعد... لا أحد ينتظر حتى يفتح ويخرج البشر داخله.. بل يندفع الراغبون في استخدامه وهن الآن بالمئات ليحشروا القادمات ويبدأ التدافع فلا أحد يدخل ولا أحد يخرج والأطفال يكادون يختنقون وسط هذه اللحوم البشرية التي زادتها لقيمات رمضان دسماً ودهناً ومعها بعض الروائح العطرية الرخيصة وخليط كبير من العرق البشري الخالص لتكون النتيجة غازات مُحرمة دولياً يصعب على الكبار فما بالك بالصغار استنشاقها!
من ناحية أخرى علينا تخيل أيضاً ما كان يحدث خارج القسم الخاص بالمرأة أي في الطابقين الأرضي والأول حيث غصت أدواره بآلاف البشر من المتسوقين والمتسوقات وبالعشرات.. بل المئات من رجال الهيئة.. وكان الجميع؛ حراس الأمن داخل وخارج المجمع، ورجال البوليس، والهيئة، وكما بدا لي من نشاطهم المحموم مشغولون ليس بسلامة الناس قدر انشغالهم بالفصل بين - الشباب والفتيات - الذين (زودوها حبتين) في ذلك اليوم... وهذا موضوع آخر يستحق فعلاً المناقشة حول (العلاقة اليوم بين الجيل الجديد والهيئة)، لكن ما شغلني فعلاً هو سلامة هؤلاء الآلاف من الناس في أحد أجمل أيامهم إذ مما لا شك فيه أن رجال الأمن في المجمع ورجال الهيئة والبوليس يرغبون لكل مواطن في العودة سالماً غانماً إلى منزله في يوم هو من أسعد أيامه، لكن هذا لن يحدث لأننا نتمنى ذلك.. بل لأن هناك خطة واضحة يتم التدرب عليها من كافة من لهم علاقة بالموضوع من رجال أمن وبوليس ومسؤولين داخل المجمع.
يجب فعلاً عدم التقليل من أهمية هذا الأمر ووضع المخصصات المالية اللازمة التي تضمن إجراءات واضحة للجميع مع توفير التدريب والأجهزة، ولنا في تجارب الدول الأخرى خير دليل، فها هي الشعوب - في طول الكرة الأرضية وعرضها - تقيم احتفالاتها وشعوبها تقدر بالملايين من البشر ويظل هاجس الأمن والسلامة هو صاحب الأولوية في كل احتفال، وأظن أننا نستحق أن نعامل كبشر مثلهم..
وفي الحق لا أعرف لماذا نقف بشكل عدائي ضد فكرة السلامة والأمن، فبيوتنا لا تحتوي حتى على طفاية حريق مثلها مثل سياراتنا التي لا نتخذ فيها أدنى قواعد السلامة، لا من حيث إلزام الأطفال باستخدام المقاعد المخصصة لهم، ولا بتوفير طفايات خشية الحريق وهو الأمر الذي نجده مستساغاً حتى حدود الدهشة أن لا يتضمن مخطط المنزل عند بنائه رشاشات مياه تعلق في سقوف المنازل لتنطلق عند الحاجة.
المواقف العدائية لمفهوم السلامة ليست حكراً على الأفراد بالمناسبة، بل تشاركها دون تردد معظم المؤسسات العامة التي تعتبر التفكير في خطط الإخلاء أو التأكيد على مفاهيم السلامة تحدياً واضحاً لقوانين الطبيعة التي تتطلب التخلص من بعض البشر بين آونة وأخرى لإخلاء المكان للقادمين الجدد من المواليد، ومن الواضح أن المؤسسات التربوية بلا شك شريك مخلص في مفهوم تحقيق التوازن البيئي هذا!
وأنا بحق أفكر كل يوم سواء في لحظة دخولي أو خروجي من بوابة رقم ثلاثة في جامعة الملك سعود حيث أعمل والتي هي عبارة عن باب حديدي لا يتعدى المتر والنصف عما يمكن أن يحدث في حالة الطوارئ. كيف يمكن إخراج هذه الآلاف المؤلفة من البشر من ثقب الجحيم هذا؟ وهل نملك التدريب على ماذا نفعل وأين نتجه وأين مفاتيح الأبواب الأخرى في تلك اللحظات الثمينة؟!.. أنا حقاً لا أعرف الإجابة وأتخيل حجم التدافع في هذه الغرفة باتجاه هذا الثقب للخلاص بالروح ليصدمك الجدار الذي وضع بموازاة هذا الباب الثمين لصد أعين المتلصصين من الرجال، بحيث ضاقت مساحة الخروج إلى أقل من المتر الآن، فهل لأي منكم أن يتخيل ماذا سنفعل في حال اندلاع حريق أو حدوث طارئ؟؟
أظن أن الحال أكثر سوءاً في المدارس، ومن يرى الزحام المخيف حول مبانيها لحظة انتهاء الطلبة من يومهم والوقوف العشوائي لكل من يريد حتى وإن افترش الشارع بسيارته حتى تخرج مصونته، فسيعرف حجم اللامبالاة الهائلة التي تطفح بها سلوكياتنا، بحيث لا يمكن لأي مسعف أو سيارة إطفاء أن تصل في الوقت المناسب وحال جامعتي المسكينة مع هذا المشهد اليومي المتعب حتى حدود الضجر أضحى قصة تطير بها الرواة إلى كل الآفاق.
الكثير من المدارس الأجنبية في مدينة الرياض تخصص ما لا يقل عن 10% من موازنتها للأمن والسلامة وتنظيم الطرق ومواقف السيارات باعتبارها جزءاً أساسياً من الموازنة الدائمة للمدرسة، وتعامل معاملة رواتب المدرسين مما جعل قوانين السلامة تفرض بشكل أساسي على المباني والمداخل والسيارات وتوظف شركات متخصصة هدفها حماية التلاميذ أولاً وتوفير شروط السلامة الأساسية وتنظيم الدخول والخروج من المدرسة مهما كان حجم النشاط القائم في المدرسة لذلك اليوم ومهما كان عدد الزائرين.
إنني أسأل فقط: هل نختلف نحن في تكويننا وقيمة الدم البشري الذي ينفر عبر عروقنا عن أولئك الذين يستحقون أن توفر لهم شروط السلامة في مؤسساتهم العامة والخاصة؟