ما زلت أتذكَّر ذلك الضحى (الدافئ) جيداً، عندما استقبلني الشيخ حمد الحقيل في منزله والتراحيب تملأ وجهه والإشراق يعلو محيَّاه - كما هي عادته -, فلم تغيِّر أعوام الدهر شيئاً من ذلك الشيخ الوقور أو تبدِّل فيه طبعاً, فكان - رحمه الله - كما وُصِفَ لي ..
من يعرف الشيخ حمد, يدرك مدى الخسارة الكبيرة التي مُني بها التاريخ الذي أبى إلاّ أن يأخذه إلى جانبه ليزيده وقاراً وشموخاً ونبلاً ..
عاش أبو عبد الكريم حياة صامتة بعيدة عن الأضواء, قريبة من العلم الذي أفنى حياته في سبيله, تشهد بذلك تلك المؤلّفات الموسوعية الضخمة التي أثرت المكتبة السعودية والعربية بإصدارات لا مثيل لها، في مقدمتها (كنز الأنساب ومجمع الآداب، زهر الآداب في أنساب وأخبار العرب، عبد العزيز في التاريخ، الوحشيات والأوابد ) وغيرها كثير . وكم وددت أن أسهب في الحديث عنها ولعلّ ذلك يكون في غير هذه المناسبة، مؤلّفات قلّما تجد لها نظيراً أو مثيلاً، فالشيخ حمد - رحمه الله - كان رجلاً تاريخياً وموسوعياً، ويتمتع بقدرات خارقة على الحفظ وضبط ما يحفظه، فقبيل وفاته بأيام زرته بالمستشفى وكان بصحة جيدة ويتمتع بذاكرة قوية، وهذا من أهم الأمور التي يجب توافرها في مؤلِّف كتب الأنساب والأشعار.
الذي يعرف الشيخ الحقيل يدرك جيداً أنّ هذا الرجل يتميَّز بقدر كبير من الصدق والصراحة في جميع أموره، وبالأخص (العلمية)، فكان لا يحابي ولا يجامل على حساب العلم أبداً تحت أي ظرف كان، فهو يختلف عن بعض المؤلِّفين من أبناء جيله سواء أكانوا على قيد الحياة أو ممن فارقوا الدنيا، فالتركيز والبُعد عن العشوائية والتحقُّق من المعلومات كانت منهجه وهي مطالب ضرورية وبخاصة في مثل هذه المؤلّفات الموسوعية.
على الرغم من بُعد أبي عبد الكريم عن الصحافة والأضواء، فقد هجرها منذ أكثر من أربعين عاماً، إلاّ أنّه قد فتح قلبه وبيته للجزيرة، فوافق على استضافته على صفحة (مسيرة) وكان يجيب على أي تساؤل تطرحه، وبرحابة صدر وسعة بال، وكان يسرد أدق التفاصيل في شبابه، ولم تكن تلك الأحداث تخلو من الدعابة أو الطرفة ... سنين ملأها شيخنا بالعلم والأدب، ولعلّ من حضر صالون الشيخ حمد الأدبي يعرف مدى الخسارة التي مُنينا بها .. رحمك الله يا شيخنا رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته.
