لا شك أن وضوح الأهداف التعليمية لكل قطاع أو مؤسسة تعليمية مدخل أساسي للنجاح في تحقيق تلك الأهداف، فعندما تغيب الأهداف أو تغلفها النظرات الضبابية فقل على النجاح السلام. أقول هذا بمناسبة ما لاحظته -ولاحظه كثيرون غيري- من التشابه والتداخل بين برامج كليات التقنية وكليات المجتمع في المملكة، مع أن المفترض أن لكل منهما أهدافاً عليا مختلفة عن الأخرى.
نعم يفترض أن كلاهما يصب في اتجاه واحد في مصلحة هذا البلد، ولكن حينما تتداخل المهام والأهداف فإن هذا لا يفيد بقدر ما يضر، والوضع المثالي أن تكون كل من المؤسستين -كليات التقنية وكليات المجتمع- على ثغرة، عليها أن تسدها وتقوم بواجبها كما ينبغي.
وحتى نفهم الموضوع ونضع النقاط على الحروف؛ دعنا بداية نأخذ لمحة عن كل من كليات التقنية وكليات المجتمع، كليات التقنية كما هو معروف تتبع المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني، وكان يتبع تلك المؤسسة في البداية عدد قليل من المعاهد الفنية زاد عددها مع الوقت، وكان هدفها -والمفترض أنه لا يزال، وكما هو واضح من اسمها- تخريج فنيين وحرفيين مؤهلين لسوق العمل، في مجالات مثل الكهرباء والبرادة والميكانيكا والتبريد والإلكترونيات... إلخ. ثم كان التطور النوعي لتلك الكليات، وهو المتمثل في تحويل عدد من المعاهد الفنية إلى كليات تحمل اسم كليات التقنية، كانت الانطلاقة الأولى لتلك الكليات -حسبما أعلم- من المعهد الفني بالرياض بشارع الريل، تبعه معاهد فنية أخرى تحولت إلى كليات للتقنية. وحدث تطوير للمناهج التدريسية والأقسام أكثر من مرة في تلك الكليات، فأنشئ في كليات التقنية أقسام للحاسب الآلي والإدارة والمحاسبة وغيرها من الأقسام التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي، وأصبحت تمنح درجات البكالوريوس بعد أن كانت تمنح درجة الدبلوم فقط، بل أصبحت بعض تلك الكليات تمنح درجات الماجستير والدكتوراه، وترسل بعثات إلى الخارج أيضاً!
ومنذ ذلك الحين ولم يعد أحد يعلم هل خريج تلك الكليات يؤهل فنياً لسوق العمل أم يؤهل ليكون من الكوادر العلمية، وهل هو فني أم إداري، وهل الحاصل على الماجستير أو الدكتوراه من تلك الكليات مدرب أم مهندس؟! والسؤال الأهم في هذا السياق: هل حققت تلك كليات التقنية أهداف المؤسسة التابعة لها، وسدت العجز الحاصل في سوق العمل من الفنيين والمهنيين المدربين؟!
أما من ناحية كليات المجتمع، فقد كان الدافع إليها هو سد العجز الحاصل في سوق العمل في جميع المجالات، والمواءمة بين مدخلات التعليم ومخرجاته؛ مستفيدين في ذلك بتجارب عديد من الدول الأجنبية، حيث تكون كلية المجتمع مشدودة ما بين طرفين، الطرف الأول تعليمي أكاديمي تتبع فيه الكلية جامعة من الجامعات، والطرف الثاني هو المجتمع بمؤسساته وظروفه، والوضع المثالي لأية كلية مجتمع أن يتبنى كل برنامج من البرامج التعليمية فيها مؤسسة من مؤسسات المجتمع، بحيث يجد الطالب فرصة عمل فور تخرجه، ولا يكون محتاجاً للتدريب وقتها، فهو قد تلقى تدريبه بالفعل وقت الدراسة، بالإضافة إلى ما تلقاه من حصيلة علمية ملائمة.
وقد يبدو الفارق بين كلية المجتمع وكلية التقنية ضئيلاً، ولكن عند التأمل نجد هناك فروقاً لا تخطئها العين، أهمها أن كلية التقنية تخرج مهنيين وحرفيين، أما كلية المجتمع فلا تلتزم بهذا القيد، بل إن برامجها تتسم بالتغير والتحول وفقاً لظروف المجتمع ذاته، ويغلب على تخصصاتها الطابع الأكاديمي، مثل مجالات الإدارة واللغات والحاسب الآلي. ومن جهة أخرى فلكليات المجتمع دور آخر، وهو استيعاب العدد الزائد من خريجي الثانويات الذين لا يجدون مكاناً في الجامعات، خصوصاً في الأماكن النائية؛ ليدرسوا فيها لمدة عامين، ويكملوا بعد ذلك طريقهم في الجامعة لمدة عامين آخرين ليحصلوا على البكالوريوس في النهاية، وهو ما يعرف بالبرنامج الانتقالي.
ومن حيث البداية، فقد كانت النواة الأولى لكليات المجتمع في المملكة كليتان، إحداهما بحائل، وكانت تشرف عليها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وقد تحولت فيما بعد إلى كلية تمنح درجة البكالوريوس، ثم أصبحت نواة لجامعة حائل. والثانية كلية المجتمع بتبوك وهي تابعة لجامعة الملك عبدالعزيز، وقد تحولت فيما بعد لتمنح درجة البكالوريوس للطلبة والطالبات، وأصبحت هي الأخرى نواة لجامعة تبوك. وبعد هاتين الكليتين افتتح عدد من كليات المجتمع في أنحاء شتى من المملكة، لكل كلية برامجها الخاصة التي تلائم المنطقة التي ولدت فيها، ومرة أخرى نسأل ذات السؤال: وهل حققت كليات المجتمع أهدافها؟
الجواب هو أن نحو 10% فقط من تلكم الكليات حققت أهدافها تماماً، وبعضها الآخر حقق أهدافه بصورة جزئية، أما الغالبية العظمى من كليات المجتمع فما يزال يعاني وينحت في الصخر من أجل النجاح، ولا يبدو ذلك منظوراً في المستقبل القريب ما لم تتغير الظروف المحيطة بها.
أما تلك الكليات التي حققت أهدافها فهي الكليات التي وجد في منطقتها شركات عملاقة تبنت عدداً من البرامج، في جو يخلو من المنافسة، فكان الطالب يتخرج ليجد وظيفة في انتظاره، قد تدرب عليها من قبل، وفي ذات الوقت يوجد برامج انتقالية ساعدت الطلاب على الالتحاق بالجامعة الأم التي تتبعها الكلية، فتغلبوا على مشكلة البعد المكاني عن الجامعة من ناحية وعلى مشكلة قلة عدد المقبولين في الجامعة من ناحية أخرى.
وأما كليات المجتمع التي حققت أهدافها جزئياً، فقد كان ذلك نتيجة وجود برامج انتقالية متعددة ومتميزة، أهلت طلاب المنطقة التي توجد بها الكلية ليلتحقوا بالجامعة.
لعل القارئ الكريم قد اكتشف ما تعانيه كليات المجتمع الأخرى التي ما تزال تبحث عن النجاح، فهي كليات في مدن تبعد عن الجامعة الأم، وليس بها برامج انتقالية متعددة ومتنوعة، فخدمتها للمجتمع في تلك الناحية قليلة، وأما برامجها التأهيلية فهي لا تجد مؤسسات قوية تتبناها، والخيوط مع المجتمع واهية، واللافت للنظر أن غالب تلك الكليات تقع في مدنها كليات تقنية! تقدم برامج مشابهة لما تقدمه كلية المجتمع، وتزيد عنها في أنها تصرف مكافآت للطلاب، وتمنح درجة البكالوريوس دون انتقال إلى جامعة أو غيره، مما يجعل الإقبال شديداً على كليات التقنية وضعيفاً على كليات المجتمع، وها هنا لابد من وقفة.
إن الازدواجية والمشابهة بين البرامج التي تقدمها كليات التقنية وكليات المجتمع يجعلنا نعيد السؤال مرة أخرى: أين الأهداف الموضوعة لكل منهما؟ وهل تعمل كل منهما على سد الثغرة المكلفة بسدها؟ وأين القائمون على العملية التعليمية ليعملوا على التوجيه والتسديد؛ لتكون العلاقة بين المؤسسات التعليمية المختلفة علاقة تكامل لا تنافس؟
إن كلاً من كليات التقنية وكليات المجتمع عليه عبء كبير في التنمية وتأهيل الشباب السعودي لسوق العمل، وإذا قامتا بواجبهما خير قيام فسيظهر أثر ذلك في المستقبل القريب إن شاء الله، ولكن القيام بالواجب وتحقيق الأهداف يتطلب التكامل وليس التنافس، فضلاً عن التنافس الشرس الذي يضعف تأثير الآخر إلى حد يكاد يلغيه.
إن الأمر يحتاج إلى وقفة ومراجعة سريعة، لتلتزم كل مؤسسة تعليمية بأهدافها، ونقضي على الازدواجية والتضارب فيما بين مؤسساتنا التعليمية، حتى لا نكون كمن يحرث في الماء أو ننفخ في الهواء.
عميد كلية المجتمع بمحافظة الخرج