Al Jazirah NewsPaper Wednesday  19/03/2008 G Issue 12956
الاربعاء 11 ربيع الأول 1429   العدد  12956
النمط والضفة الأخرى ..!
د. إبراهيم بن عبد الرحمن التركي

في مقابلة توظيف شخصية طُلب من (بادية) ابنة الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى 1921- أن تقرأ للجنة شيئاً مما تحفظُه لأبيها، ويكون هذا جواز عُبورها المقابلة، فقالت: إنها لا تحفظ حتى بيتاً واحداً.

(1)

تُقرأ هذه الحكاية التي رواها (أبو معن) بدلالات مختلفة؛ فقد تجيء إشارةً إلى (العشب الذي يُرى أكثر اخضراراً على الضفّة المقابلة) -كما في المثل الأجنبي- وهو المعادل للمثل العربي الذائع: (زامر الحي لا يُطرب)، لكنها ليست كذلك؛ فالابنة ترى أباها كلّ الضفاف، وربما جاءت بسياق فوارق الأجيال التي تلد ثقافتها الخاصة بها دون أن تُضطرّ للمسايرة، وفي هذا نظر، إذ إن المجايلين الآخرين ممن هم (أو هن) في عمر ابنة الشاعر يحفظون له ويتغنون بقصائده، وقد تعطي انطباعاً أن القرب لا يتيح مسافة للرؤية، وغير هذا وذاك فثمةَ تفسيرات متعددة؛ لتبقى الحكايةُ عابرةً وأمثالُها متكررة.

** لن نقف عند الصورة الجزئيّة؛ فأولادُ الكاتب والشاعر والسارد والإذاعي والصحفي والباحث -في الأغلب- هم آخر الناس اهتماماً بمتابعة نشاط أبيهم، ولعله واقعٌ اعتيادي لا يستحقُ أكثر من ابتسامة وعلامة تعجب لنقف عند الصورة الشمولية المغايرة.

(2)

** المشهد السابق يحملُ الإيجابية الرافضة للاستنساخ الثقافي؛ فأنا غيرُ أبي، وأبي غير جدي، ومن المفترض أن يجيء ابني مختلفاً عني، وهنا معنىً مهم للثقافة المتجددة التي لا تلدُ ذاتها فتكرر المكرر، وتستنسخ المستنسخ، فتنعدمُ الإضافةُ المعرفية كما الاجتماعية، ما ينشر الركود والتقليد.

** لو سار المجتمعُ كلّه بهذا المثال لانعتقت التركيبات الثقافية والاجتماعية من نمطيّة السائد والمعتاد والموروث والتقاليد غير المرتبطة بالنصوص الشرعية القطعية الإجماعية، لكن الواقع يشي أن الثقافة العربية - منذ أزمنةٍ بعيدة- تعيد إنتاجَ نفسِها، وبمقدار مغايرة الأبناء آباءهم، تتجلّى مشاكلةُ الأتباع متبوعيهم؛ بحيث يظهرُ الخروجُ على (النظام العام) إعلانَ انفصال غير مأذون به.

** وفي قضايا الفكر يُصار إلى مصادرة الآراء الجديدة بدعوى عدم انسجامها مع الآراء القديمة التي نشأَ عليها الناس منذ سالف عصورهم، وهو ما يتضمنُ تقديساً (غير معلن) لأقوال أناس تصدروا فسيطرت رؤاهم، ولم تعد اجتهاداً قابلاً للمجادلة.

** وإذن فالابن يختلف عن أبيه في علامةٍ إيجابية، لكن الاختلاف عن غير أبيه علامةٌ سلبية تدعو للتساؤل إن لم يكن المساءلة.

(3)

** مشكلةُ المجتمع المستنسخ، الذي لا يريد تجاوز النمط، وقوفُه آخرَ الصف محتمياً بصفوفٍ تتقدمُه وتعطيه الأمان من الاختراق؛ بحيثُ يتوهم نجاته من المتغيّرات لوجود خطوط الدفاع المكثفة متمثلةً في مجموع العادات والأعراف والتقاليد وسدّ الذّرائع والاحتياط وعدم نضج المجتمع والخصوصية والتمايز عن الآخرين وما يدور في فلكها من تبريرات ومصطلحات وتهيؤات.

** والقضيّة -مرة أخرى- لا تتصلُ بالثوابت المحدّدة التي اكتسبت الشرعية من النص القطعي المقدّس المجمع عليه؛ فهذه لا يجوزُ طرحُها بأيّ معنىً من المعاني؛ لأنها أساس لهوية الأمة يضمنُ لها الخيريّة الدنيوية والأخرويّة.

** نحتاطُ في كتاباتنا؛ فنعيد المعاد كيلا ينفذ أوصياءُ النسق عبر ثغرات عدم الاحتراز، وهنا خللٌ منهجي يجعلُ المتصدين للفعل الثقافي يحتمون بصفوف أخرى مماثلة لما يقوم به النسقيون تهتمُّ باستصدار شهادات حسن سيرة وسلوك ليرفقوها مع طروحِهم الثقافية التي يرونها إصلاحية.

** وهنا ندخل في تمييز الإطار عن المعنى أو الصيغة عن الدلالة؛ فحين يهتمُّ الإطار بالحدود غير القابلة للتفاوض أو المساومة أو التعديل، فإن المعاني تتقبل كل الأفهام والتفسيرات، وتجيء الصيغة ذاتَ إشاراتٍ عريضة لا تأذن بالتدخل أو التداخل، أما الدلالات فَوِفْقُ العقل الفاحص القادر على إنتاج معرفة جديدة لا مجرد استنساخ المعارف القديمة.

(4)

** هذه توطنة بحثٍ معرفي عميق يحتاجُ إلى كتاب تخصصي لا يأذن المقالُ السريع بقراءة أبعاده المتصلة بمفاهيم الشكل الثقافي والصيغ التي تولد المعاني والاستبدال الذهني المبدئي والتطويري والأزمات التكوينية والبنيوية والتفاعلية والقطيعة المعرفية ومفاهيم الاختلاف ووظيفته الثقافية وغير ذلك من قراءات في البناء الفكري الشامل.

** ليت الوقت يسعفُ لمثل هذه الدراسات وإن لم تجد قارئاً وسط انتشار التجهيل الثقافي عبر الطروح الخفيفة المستخفة التي تعزفُ على الوتر الرغبوي سواء أجاءت بصيغ منغلقة أو مندلقة، وسواء أطرحها عالم أو متعالم، مدافع أو مندفع.

** وإلى أن يحين الحين أو يستحيل، فإن مناسبات مهمة مثل معرض الكتاب ومهرجان الجنادرية وملتقيات الأندية مطالبةٌ بتجاوز الخوف من عَقْد سجالات فكرية حقيقية لا تقف عند الموضوعات التقنيّة التي يعرف مقرورها قبل غيرهم أنها هروب هادئ من جلبة الدوغما واستئثار الوصاية.

** سقطت الأدلجات المبنية على اليوتوبيا لأنها خالفت الطبيعة الإنسانية التي خلقها الله جل شأنه بما فيها من خير وشر، وبما فيها من نسبية زمانية ومكانية، وبما فيها من إمكانات ذاتية للتطور وللتقهقر، وبقيت الثقافات التي تلتف بعباءة ذاتها بلا أثر على أناها وآخَرِها، فقعدت في آخر الركب محاطة بالخوف والخواء.

** التردد لا ينتجُ استقراراً، والمسايرة لا تعني التسليم، والحذر لن يغير الواقع الثقافي المنقسم على نفسه، والمثقف الحقيقي مستقل عن كل التبعيات، أما الرسمي فإنه يقرأ التوجهات ثم يقف عند التوجيهات.

(5)

** يفرق العلماء بين مفهومي الإدارة والقيادة؛ فبينما يستطيع الإداريُّ الناجح تقديم عمل نوعي لصالح المنظمة التي يشرف عليها بما يشمل ذلك من تخطيط وتنظيم وإشراف وتدريب وتطوير وربحيّة مادية ومعنوية مع المحافظة على الأساسات والتواصل عبر الإنجازات، فإن القائد هو القادر على التفكير وخلق إرادة التغيير.

** وبهذا المفهوم، فإن معظم المسؤولين عن الشأن الثقافي العربي هم إداريون ناجحون أو فاشلون في شبه غياب للقادة الذين يرسمون ملامح جديدة فوق وجوه قديمة، ويتولون الفعل كما يتصدون لردود الفعل؛ ما يأذن لمرحلة جديدة من التنمية بالانطلاق.

** وحين تُناقَشُ المشروعات -تحديداً- فإن المحاور لا تتجاوز محاولة وضع لمسات جمالية على (أشكال) مألوفة، وربما غابت حتى هذه اللمسات ليبدو التكرار والإصرار على قفل النوافذ أمام تيارات التغيير.

** وفي النماذج المعاشة -على المستوى العربي- تختلف المؤسسات في علّوها ودنوّها، ليبقى إداريوها جميعاً مسؤولين عن دقة التنفيذ، ولنبقى بحاجة إلى قياديين يصنعون الحدث ويرسمون خيوطه.

(6)

** باتت الفعاليات الثقافية العربية محاطة بالتنميط، ويكفي مسؤوليها أن يملأوا فراغات جداولها وخطاباتها وشخوصها، مقدمين الاحتراز على الامتياز، ومؤثرين السلامة من الملامة، ليسهموا في تكريس الثقافة التي لا تزال تعيد إنتاج نفسها حتى توارى الثرى.

** ويهتم الفكر المتصل بإعادة إنتاج الذات عبر إبقاء العلاقات السائدة بين مؤسسات المجتمع وأفراده وفق مستوى تنظيمي لا يتبدل بحيث تبقى السلطةُ الأبويّة مدار الفعل ومزار التفاعل، وهنا نقف في نقطة دون حراك، وربما ارتددنا إلى الخلف ونحن نظن الصعود إلى الذرى.

* الثقافة تغيير.



E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6745 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد