هذه مناسبة طيبة نلقي فيها الضوء على جوانب خالدة من حياة هذا النبي الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهو الجانب الذي شهد له الله من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}وجاء في الصحاح عند البخاري ومسلم وغيرهما، وفي الأحاديث المروية أنه كان يفرح بيوم |
مولده ويقول: (هذا يوم ولدت فيه). |
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم هذا اليوم احتفاءً بالمولد الشريف وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء من بعدهم، ومن هنا فإن من واجبنا ونحن نقتفي سنته ونتتبع سيرته أن نقتدي به ونفعل كما فعل ونحتفل بهذا اليوم بما يليق به، وبالطريقة التي سنها عليه الصلاة والسلام وما يماثلها من أصل الدين، ولعل من أفضل ما نقف عنده في استعراضنا للسيرة النبوية هي تلك النماذج من أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان نعم القدوة ونعم الأسوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. |
ولقد كان أميناً وفيا تقيا شجاعاً كريماً صواماً قواماً فقد كان يحسب صحابته ويعطف عليهم وعلى الرغم من كل الخصال الحميدة التي يتصف بها إلا أن الله عز وجل عندما وصفه إنما وصفة بالخلق العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. |
فدعونا في هذه المناسبة الطيبة نستعرض نماذج من تلك الأخلاق النبوية الشريفة والصفات الكريمة والهمة العالية والنفس الصافية والأدب الجم والإنسانية الراقية والقيادة الواعية والتواضع الكبير والرحمة المهداة فقد كان رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }. |
ولقد اختار الله سبحانه وتعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، واصطفاه من مخلوقاته حبيباً وخليلاً، ومنحه من الأخلاق المرضية والصفات السنية، تجعله المثل الأعلى لكل مخلوق، والقدوة الحسنة لكل عاقل. |
وعندما نتأمل في مسقط رأسه: |
نجد: مكة المكرمة أم القرى، خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله. روى الترمذي عن عبدالله بن عدي بن حمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت). |
|
أولاً: نجد أنه من قريش، وهي أشرف العرب نسباً، وأزكاها حسباً، بل أشرف البشرية محمد، وأكرمها أصلاً. روى الطبراني عن أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ولا يعطيها أحداً بعدهم: |
فضل الله قريشا بأني منهم. |
|
وان الحجابة فيهم (مفتاح الكعبة بيدهم). |
|
|
وعبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم (قبل الهجرة). |
وأنزل فيهم سورة من القرآن لم تنزل في أحد من غيرهم (سورة لإيلاف قريش)(1). |
ثانياً: نجد أنه من بني هاشم أشرف قريش منزلة. |
روى مسلم عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم(2). |
ثالثا: نجد أنه من خير القرون |
فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت من خير قرون بني آدم، قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)(3). |
أشرف القرون قرنه، وأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه، فهو صلى الله عليه وسلم نخبة من هاشم، وسلالة من قريش، وأشرف العرب، وأعزهم نفرا من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله(4). |
قال تعالى: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وروى عبدالرزاق بسنده إلى محمد الباقر في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية قال: وقال صلى الله عليه وسلم: (إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح) وهو مرسل جيد. |
وروى عن ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما ولدتني بغي قط منذ خرجت من صلب آدم، ولم تزل تنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب: هاشم وزهرة). |
وإذا تأملنا في أخلاقه قبل النبوة: |
في طفولته وفتوته وشبابه: نجده عند حليمة، وفي بيت حليمة السعدية مصدرا للبركات، تتوجه إليه الأنظار، تظهر بركته على الدابة التي ركبها، وفي البيت الذي يسكن فيه، وفي الغنم التي تأوي إلى دار حليمة حتى صارت مضرب المثل عند الجميع. |
وفي حادثة شق الصدر، تخوفت حليمة عليه، فأعادته إلى أمه. قالت حليمة: فاحتملتك إلى أمه، فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين؟ حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه من الشيطان؟ كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، والله إنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبركما خبره؟ قمنا: بلى، قالت حملت به فما حملت حملا قط أخف منه، فأريت في النوم حين حملت به خرج مني على يديه رافعا رأسه إلى السماء.أهـ(6). |
ونجده عند جده عبدالمطلب وقد توفيت أمه وعمره ست سنوات: |
رق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يوضع لعبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من بنيه إحلالاً له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي فيجلس عليه، فيذهب أعمامه يؤخرونه فيقول جده، دعوا ابني فيمسح على ظهره، ويقول: إن لابني هذا شأنا. وربما أقعده على فخذه. ومات جده عبدالمطلب وعمره ثمان سنوات، فأوصى به أبا طالب. |
ونجده عند أبي طالب محبوباً من قبله حباً لا مزيد عليه: |
وكان أبو طالب لا ينام إلا جنبه يتلمس بركته، وكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا. فإذا أراد أن يغذيهم أو يعشيهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فيفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعهم، وإن كان لبنا شرب أولهم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه، فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعباً وحده. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. |
ولما وقع القحط في مكة، خرج أبو طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه، مشيراً إلى السماء، وما في السماء قزعة (قطعة سحاب) فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق، واغدودق (كثر قطره) وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي وفي هذا يقول أبو طالب: |
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يلوذ به الهُلاَّك من آل هاشم |
فهم عنده في رحمة وفواضل |
وختاماً فهذه جوانب من حياته صلى الله عليه وسلم، وما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من أصل طيب ونسب كريم ونشأة صالحة، وحماه فيها من عبادة الأصنام أو فعل الحرام، فكان حتى في تلك الجاهلية الظلماء نجم لمع بتربيته وشهدوا له جميعاً بأخلاقه، لأن الله سبحانه قد شهد له بأنه على خلق عظيم، وكرمه فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}. |
وللحديث تتمة في الجزء الثاني إن شاء الله لنكمل فيه إلقاء الضوء على جوانب من حياته صلى الله عليه وسلم. |
1- سبل الهدى والرشاد 1 - 271 |
|
|
|
5 - البداية والنهاية 2 - 238 |
6 - السيرة الشامية 1 - 470 بتصرف |
|