Al Jazirah NewsPaper Sunday  16/03/2008 G Issue 12953
الأحد 08 ربيع الأول 1429   العدد  12953

ورحل بَكْر العَلَم مُسَدّد القلم
محمد بن صالح بن سليمان الخزيم

 

إن الفناء سنة ربانية تأخذ القاصي والداني والرفيع والوضيع، غير أن الفرق يتبلور بالأثر الناتج عن تلك المصيبة، وإن من أشد تلك الفجائع رحيل العالم الرباني (1)؛ إذ موته ثُلمة في الكيان الإسلامي. قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)، مع أنه واحد.

وما كان موت قيس هُلكة هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

ولا عجب من ذلك؛ لأن العلماء لهم نور يشعّ يهتدي به الناس؛ لأن نفعهم متعد، ومع أنهم يُهتدى بهم فهم رجوم للشياطين كالنجوم في السماء.

(فإذا كانت بنو إسرائيل كلما هلك فيهم نبي خلفه نبي فكانت تسوسهم الأنبياء. أما أمة الإسلام فتسوسهم العلماء؛ فعلماء الإسلام كالأنبياء في بني إسرائيل فكلما مات عالم خلفه عالم آخر حتى لا تنطمس معالم الدين).

لذا تجدهم يفرحون بمن اهتدى ولا يتركون من تردى، راجين الثواب الآخرة لا معادن الدنيا. حبهم عبادة ومجالستهم زيادة.

قال ابن مسعود: (المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة).. يأخذون بحُجَز الناس لئلا يقعوا في النار؛ فرحمتهم متفرعة من الرحمة الربانية؛ إذ رائدهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن من هؤلاء الأفذاذ ما رُزِئت به أمة الإسلام في السابع والعشرين من محرم عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين، عالم الملّة، عظيم المنة، نافذ البصيرة، ثاقب الفهم، الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد.. صاحب التصانيف ذات المداد المعينة التي كم أحيت من قلوب ونفضت من جمود؛ فرحمه الله رحمة واسعة.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

فحقاً إن فقد العلماء نقص ورزية، قال ابن عباس في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}؛ أي بموت العلماء والصالحين وأهل الخير.

تعلَّم ما الرَّزِية فقْد مال

ولا شاة تموتُ ولا بعير

ولكن الرزية فقدُ حُرٍّ

يموت بموته بشرٌ كثير

ونحن اليوم نفقد عالماً كنا بأمس الحاجة إليه؛ إذ كان - رحمه الله - موفقاً للصواب، والوصول إلى المراد؛ لأن فقه الواقع قرينة، وعلم السلف دليله قيل: (من فارق الدليل ضل السبيل).

من قرأ مؤلفاته وسمع شروحاته عرف أنه يغوص في أغوار المسائل ويستخلص ما اعتضد بالدليل فشفى وكفى. لذا بسط الله لمؤلفاته القبول لا يكاد يخلو بيت منها زانها بسبك الكلمات ورزانة العبارات وشمولية الاستفادة. صدرت في وقت غابت فيه الحقيقة عن الكثيرين فأدركوها في سلة علمه، ولا غرابة في ذلك؛ لأنه نزح من علم العلمين الجيلين ابن باز والشنقيطي.

من تلك المؤلفات: (تصنيف الناس) أوضح فيه حقيقة الألقاب لما حَكَّم الناس ألسنتهم بتصنيف أمتهم ظلماً وبهتاناً ففرقوا جمعها وشتتوا جهدها. ثم اتبعه بكتاب (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)، رادعاً من له قلب عن التحزب والتكتل الممقوت (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؛ فما جرحت الأمة من ظهرها بمثل هذه الانتماءات.

ولما وضع خط أرضي بالحرم يستدل به على الحجر الأسود ألف كتاب (العلامة الشرعية) أبان فيه أضرار تلك العلامة دافعاً شبهة واضعها منادياً بإزالتها وقد تحقق ذلك والحمد لله.

أما سفره (خصائص جزيرة العرب) فقد جاء هادياً ودليلاً لكثير من حدود جزيرة العرب وأحكامها.. كل ذلك غَيْرة على خصائصها وعظيم فضلها؛ إذ هي درة الأرض وتاجها.

أما كتاب حراسة الفضيلة فقد صدَّ به كثيراً من الرذيلة الموجهة من دعاة المرأة الذين وكزوا ظهر الأمة بمبادئهم الغربية.

هذه نظرة في جزء من مصنفاته المتعددة؛ إذ بلغت مصنفاته ما يزيد على سبعين مصنفاً مدبجة بحلل فريدة. ولم يكن - رحمه الله - صاحب فن واحد بل تشعب علمه فقهاً وحديثاً وسلوكاً، إضافة إلى تحقيق عشرات الكتب في علم الرجال.

وقد خدم مؤلفات ابن القيم خدمة فائقة تحقيقاً وتدقيقا ودراسةً وتمحيصاً؛ فأحيا ذكرها، وأبرز مجدها بأسلوب سهل ميسر.

نال بجهوده منزلة رفيعة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وقد قيل: (بالصبر واليقين تنال الإمامة بالدين). ومع أنه - رحمه الله - صاحب قلم سيّال يدون فيه أفضل الكلام، قام برسالته الاجتماعية متعلماً وعالماً ورئيساً ومرؤوساً في شتى الجوانب؛ فبارك الله في عمره وجهده؛ فيستحق أن يقال عنه: (إنه جبل نفخت فيه الروح).

فإن كانت حياته الدنيوية انتهت فلن ينتهي ذكره وفضله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير

وحق هؤلاء الرجال الذين ملؤوا الآفاق بفضل علمهم وحلمهم وصبرهم أن نترحم عليهم ونرفع شأنهم.

قال أبو محمد التميمي: (يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا).

وأخيراً أهمس في أذن كل غيور أن يمسك عن الوقيعة بأعراض العلماء والمفاضلة بينهم (فإن لحومهم مسموعة وعادة الله في منتهكيها معلومة). وفي الصحيح: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا).

قلت ما قلت مع أن حقه أكبر وأعظم، ولكن هذا ما خطه البنان وأملاه الجنان؛ وفاء لأحد الأئمة الأعلام.

اللهم ارحم أبا عبدالله وإخوانه مصابيح الدجى؛ فكم استفدنا من مؤلفاته ونهلنا من معين علمه في دراستنا العليا وبعدها؛ فرحمه الله رحمة واسعة... آمين.

* مدير المعهد العلمي بالبكيرية

(1) منسوب إلى الرب، والمراد: مَن عَلِمَ فعمل بما عَلِم.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد