بذاكرة بيضاء عن موريتانيا التقيت بوزيرة الثقافة الموريتانية (مهلة بنت أحمد) أثناء الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض الكتاب، وكل ما أعرفه عن موطنها أنه بلد المليون شاعر (أروعهم الشاعرة مباركة بنت البراء، وهي أكاديمية تعمل في جامعة الملك سعود في الرياض). وقد أعرف شذراً من تاريخ (نواكشط وشنقيط)، ممر القوافل وتجار الرقيق، ونتفاً قليلة من أخبار سياسية متقطعة تنقلها لنا نشرات الأخبار. قد يكون قصور مني، وموريتانيا تحتل مقعداً في جامعة الدول العربية، ولربما قد نُرجع هذا الأمر أيضا إلى المركزية في مواقع صناعة الخبر في العالم العربي؛ فخبر انفجار سيارة في بيروت قد يحتل نشرة إخبارية كاملة على المستوى العالم العربي لعدة أيام، بينما انقلاب حكومي شامل في موريتانيا لا ينال سوى مرتبة متقهقرة في تراتبية الأخبار.
لكن كانت النافذة التي أطللت منها على موريتانيا من خلال الوزيرة (مهلة بنت أحمد) باذخة وخضراء، سواء على المستوى الإنساني أو الثقافي أيضاً؛ فالوزيرة مهلة التي تتقن أربع لغات كانت وزيرة في عهد الحكومة الانتقالية، وقد تدرجت في المناصب السياسية عبر مناخ سياسي يشجع انخراط النساء في العمل السياسي, إلى أن استلمت الحقيبة الوزارية عام 2005م.
ودوماً أتوقع أن السيدات اللواتي يعملن في المناصب السياسية المهمة، أو حتى من يتسنمن مناصب إدارية عالية، سرعان ما يتوسلن العباءة الرجالية، ويلوحن بالقوانين والعصي الذكورية في أساليب الإدارة, ويجعلنها كهالة مكهربة تطوقهن، ينلن من خلالها الاحترام والحظوة, في محيط منحوت منذ الأزل بأزميل القوانين الذكورية.
لكن الذي يجعلنا نتوقف أمام (مهلة بن أحمد) هو أنها كانت سيدة سياسية، على وعي بأن هناك قوانين تتجذر في الوعي واللاوعي الجمعي من المستحيل العبث بها، ولكن من الممكن مخاتلتها بل والتفوق عليها، على اعتبار أن المرأة هي أقدم إداري في التاريخ؛ فهي التي تدير المجتمعات عبر الأسرة، وهي منتجة، منظمة، ذات رؤية، وخطط يومية قريبة المدى، وأخرى سنوية استراتيجية بعيدة. وقد سرَّب لنا بعض منهم حول الوزيرة الموريتانية أنها تعمل ما يربو على الاثنتي عشرة ساعة يومياً في وزارتها، وكأنها لا تقدم متطلبات منصبها فقط، بل تحاول أن تقارع وتثبت العكس لإرث القصور والوصاية الذي يطوق النساء عندما يلجن مجالس الرجال السياسية.
الوزيرة (مهلة) كانت تؤكد لنا بصوت منخفض هادئ، ليس بحاجة إلى الزعيق لإثبات الوجود، أن حقل النجاح الأول للمرأة هو منزلها؛ فهو المكان الذي يدعم ويحمي،يمنح الثقة، ويعطي الدافع للتفوق والنجاح، وأن أي نجاح خارجه لا بد أن ينطلق منه.
من يحدثها يحدس تلك الإرادة الثابتة التي لا تُهزم، والتي تخفق بين أضلعها، والتي ترى أن التحديات ما خُلقت إلا لتحفزنا على الثبات والمقاومة والاستمرار في المسيرة.
اللغات الأربع التي تتنقل بينها الوزيرة لم تقطعها عن ثقافتها ومحيطها؛ فما زالت تلتف بتلك الأردية الشرقية البراقة التي تنشر الدفء الأمومي والدماثة والوقار.
قد تكون مساحة الوقت التي أُتيحت لنا سوياً محدودة ومختطفة، لكنها بالتأكيد أزاحت أستار الغموض والبعاد عن ذلك البلد العربي القصي، الذي يتوارى في طيات المسافة، والنزر اليسير من الأخبار.