فاتتني وربما فاتت الكثيرين قبل أيام فرصة المشاركة الفاعلة في الزفة الإعلامية العالمية لأنصار المرأة من (عقلاء المتزوجين)، و(أحرار الإنسانية)، و(محاربي المجتمع الذكوري)!!، بالتضامن مع المرأة (المسحوقة)، والتعبير عن قضاياها (المعلقة)، وإعلان كل حقوقها (المهدرة) حسب الأدبيات المكررة بهذا الشأن، من خلال الاحتفال الإنساني معها في (يومها العالمي)، الذي يصادف (الثامن من شهر مارس) من كل عام ميلادي، خصوصاً أن مظاهر الاحتفال قد تأخذ صوراً متعددة وممارسات متنوعة، من قبيل إعداد الإفطار للزوجة كما أوصت بذلك المستشارة الألمانية ميركل الرئيس الروسي بوتين، أو أخذ الأطفال في نزهة ليعرفوا حجم المعاناة التي تعيشها المرأة في مطاردة أطفالها، أو القيام بكل أعمال العاملة المنزلية في هذا (اليوم الأغر) لأنها تظل امرأة في الأصل الإنساني بغض النظر عن كونها تتقاضى راتباً شهرياً نظير عملها، فالمسألة في هذا اليوم مجرد (زفة)، لكن الخطورة في هذه الزفة الإعلامية (الدسمة) المنقوعة بسمّ الفكر التغريبي، أن تتحول إلى الصياح الطاغي عبر نوافذ الإعلام ووسائله المختلفة بوجوب إزالة كل الفوارق الفطرية بين المرأة والرجل عقلياً وجسدياً ونفسياً استغلالاً لحقيقة أن المرأة إنسان كالرجل، ما ينتج عنه موافقة (غير محسوبة) لكل بنود مؤتمرات السكان الدولية التي رعتها هيئة الأمم المتحدة، وتأييد (غير واعٍ) لمطالب الحركة النسوية العالمية، سواءً الإيجابية منها التي تحقق المساواة المنطقية والمطلوبة في الحقوق الإنسانية بين الرجل والمرأة، أو السالبة التي تتجاوز شرائع الأديان وتعاليمها.
الخطورة التي أعنيها أن (يوم المرأة) لا يُطالب بحقوق المرأة حسب طبيعة كل مجتمع وثقافته المستمدة من مرجعيته الدينية أو الوضعية كالمرأة السعودية أو الإيرانية، أو أنه يوم عالمي فعلاً يحاول رفع ألوان القهر وجرائر الظلم عن النساء بشكل متساوٍ على مستوى كل دول العالم كحال المرأة الفلسطينية والمرأة العراقية أو الأفغانية، إنما ينزع إلى تكريس (الأنموذج الحضاري الغربي) في كل ما يتصل بالمرأة من حقوق إنسانية وواجبات فطرية وعملية ومتطلبات اجتماعية، بحيث يعتمد الفلسفة الغربية (المادية)، عبر محوري الحقوق والحريات بعيداً عن المرجعيات المعتبرة لهذه الأمة أو ذاك الشعب، لتأكيد (حق المرأة في ملك جسدها وحرية التصرف فيه)، من خلال إقرار قوانين وتشريعات تحمي هذا الحق وتحقق تلك الحرية التي لا بد أن تكون مطلقة لكل أنواع العلاقات الإنسانية بما فيها الجنسية، وبهذا تسقط كل الفروق الفطرية والتباينات الطبيعية بين المرأة والرجل التي أشرت لها، فتصبح كل أنماط الزواج (غير الشرعي أو غير التقليدي)، كالزواج المثلي أو المتعة (مقبولة) ضمن إطار قانوني، رغم أن هذا يؤدي فعلياً لتقليص الأدوار الطبيعية للمرأة كدور الزوجة ودور الأم حتى ينتهي بالقضاء على البنية الأسرية، على اعتبار أن (الزواج التقليدي) ظلم في حق المرأة، لأن تلك الفلسفة المادية ترى أن هذا الزواج الذي عرفته البشرية منذ بدء الخليقة قائم أساساً على تصور اقتصادي، كون المرأة بسببه صارت تابعة للرجل، ومتى ما تحررت من هذه التبعية فإنها تكون قد بدأت الخطوة الأولى في حريتها ونيل حقوقها، فتكون النتيجة من كل ذلك أن المرأة (مظلومة) في واقعها وفي أي بلد في العالم، إلى أن تنال حريتها المطلقة وتستقل بذاتها وتساوي الرجل في كل الفرص الحياتية والوظيفية والمالية، خاصة أن الخلفية التاريخية لهذا اليوم العالمي تكشف منطلقاته الفكرية وفلسفته المادية، ف(يوم المرأة العالمي) يعود إلى حركة التصنيع الغربي التي شهدتها أميركا ودول أوروبا في القرن التاسع عشر بعد أن تخمرت الثورة الصناعية الكبرى، التي بدأت في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر الميلادي بسرعة مذهلة مع تطور الآلات ذات المحركات، وظهور أساليب حديثة للإنتاج، حيث شهد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي انتشار الصناعة على نطاق واسع في غربي القارة الأوروبية وأميركا، مما كان له أكبر الأثر في تحول قطاع كبير من المجتمع الغربي من الزراعة إلى الصناعة، فانخرطت المرأة في الأعمال المهنية والميدانية، حتى إن الغالبية الساحقة من العاملين في قطاع النسيج بأميركا كن من النساء اللاتي عانين ظروف عمل قاسية فخرجن في نيويورك بمظاهرة عام 1857م هي الأولى من نوعها، احتجاجاً على ظروفهن العملية، لكن الأبرز كانت المظاهرة التي وقعت في (8 مارس) من عام 1908م بخروج آلاف العاملات المطالبات بخفض ساعات العمل ورفع الأجور وحق النساء في التدريب، وفتح المشاركات الاجتماعية والسياسية، وهو العام الذي قررت فيه المنظمات النسوية الاحتفال بيوم للمرأة وكان في 23 فبراير، أما في أوروبا فقد شهد عام 1910م قرار الاشتراكية الدولية التي اجتمعت في كوبنهاجن بالدانمرك إعلان يوم للمرأة بطابع دولي، ونتيجةً لذلك تم الاحتفال لأول مرة بهذا اليوم عام 1911م في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وبالطبع الدانمرك، كما احتفلت روسيا بهذا اليوم أول مرة في 25 فبراير عام 1917م الذي يوافق 8 مارس في التقويم المتبع في غيرها من الدول.
وعليه فالمرأة السعودية والمسلمة بشكل عام يجب أن تعي حقيقة هذا اليوم وأبعاد الاحتفالية السنوية فيه، المغلّفة بعبارات تخديرية كالحديث عن الحريات أو المطالبة بالحقوق وغيرها، وأن تحدد مرجعيتها وتتمسك بثوابتها قبل الانخراط في زفته الإعلامية إن كانت ممن يؤمن بفعالية الاحتفال بهذا اليوم واستغلاله إيجاباً، بحيث تفصل بين حقوقها المقررة شرعاً، والحريات التي تجسدت واقعاً في العهد النبوي، وبين الحقوق والحريات الليبرالية التي تعج بها بيانات وأدبيات كثير من المنظمات والحركات النسوية الغربية كي لا تقع في مصيدة التغريب فتتحول إلى مسخ للمرأة الغربية، فتخرج من قيد العادات والتقاليد البالية إلى أغلال التبعية الغربية المنحلة.
Kanaan999@hotmail.com