يبدو أن قناة البي بي سي العربية ستسحب بساط المشاهدة من جميع القنوات الفضائية الإخبارية الناطقة بالعربية. هذه المحطة تمتلك تاريخاً وتراثاً ممتداً لعقود. وكانت طوال تاريخها (كإذاعة) لها مصداقية قلّ أن تجدها لدى القنوات الإعلامية العربية. ونحن اليوم في عالم صغر وتقاربت أجزاؤه، وأصبح للإعلام فيه سلطة وسطوة ونفوذ على صناعة القرار السياسي والاقتصادي، الأمر الذي يجعل هذه المحطة الجديدة مرشحة للعب دور فاعل في السماء العربية؛ وبالذات فيما يتعلق برفع سقف الحريات الإعلامية.
(الشفافية) هي الحل؛ ولا أعتقد أن ثمة حل لمواجهة الإعلام الفضائي، أو إذا شئت: الغزو الفضائي، إلا (درع) الشفافية. التكتم والتعتيم وإسباغ جو من السرية على الممارسات الحكومية، كما يفعل الساسة العرب، لا يمكن أن يتماشى مع عالم اليوم. فالإعلام أصبح سلطة رقابة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ عندما لا تبالي به، ولا تهتم، وتمعن في تحديه، أو تحاول أن ترغمه على الخضوع لمعاييرك وحساسياتك، فأنت في واقع الأمر تغرد خارج السرب. أو أن تتجه عكس اتجاهاته، فإن النتائج ستكون بكل تأكيد وخيمة. هذه حقيقة لا يمكن أن يرفضها إلا مكابر.
(سري للغاية) عبارة يعشقها الساسة العرب حتى الثمالة، ولكنها سقطت أو تكاد في عصر العولمة الإعلامية. قد نقبلها إذا كان لها علاقة بخصوصيات الأفراد، أما إذا تعلقت بالدول والحكومات فهي محاولة للتكتم على ما لا يجب التكتم عليه؛ فمن حق المواطن-أي مواطن- أن يعرف ما يكتنف حاضره ومستقبله من أفراح وأتراح. والسياسي العربي الذي يصر على السرية، ويسعى إلى تكميم أفواه النقاد، ويُكسّر كل أنواع المرايا التي تريه صورته على حقيقتها، هو كالنعامة التي تغرس رأسها في الرمل هرباً من الصياد.
وغني عن القول إن ألدّ (عدو) للفساد المالي والإداري الذي يُسقط الدول هو الإعلام. وعندما تنزع من الإعلام خاصية (النقد) وكشف الفساد فأنت تحوله إلى أبواق دعاية وليس إعلاماً. تاريخياً لم تستطع (أبواق الدعاية) في أنظمة المعسكر الشرقي التي كانت تعمل ليل نهار إبان القرن الماضي أن تمتص غضب الجماهير عندما تحركت وأسقطت أنظمتها. بينما كان الإعلام الحر والمستقبل أحد أسباب استقرار وانضباط أنظمة الدول الغربية وامتصاص غضب شعوبها عندما يغضبون.
والسياسي العربي الذي ليس لديه ما يخفيه لا يخشى الإعلام ولا يخاف منه. وفي المقابل فإن من يكتنف ممارساته الكثير من التجاوزات، وكسر الأنظمة، خاصة فيما يتعلق بالفساد المالي والإداري، هو ألد أعداء الإعلام الحر. والذين يظنون أن بإمكانهم (تدجين) الإعلام في زمننا هم أناس لا يمتون للموضوعية والواقعية والمعاصرة بصلة. فالإعلام أصبح (سلطة رابعة) وسيفاً مُصلتاً على رأس الفساد بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
دخول هيئة الإذاعة البريطانية على الخط التلفزيوني الإخباري العربي سيغيّر كثيراً من المعادلات الإعلامية العربية، وخاصة ما يتعلق ب(الحرية) الإعلامية تحديداً، والتي تعوّد الساسة العرب على تخفيض سقفها قدر المستطاع. ولكن ما هو مقدور عليه بالنسبة لإعلام الدول العربية، لن يكون كذلك بالنسبة للبي بي سي.