إن النفوس المؤمنة لها حرمة عظيمة ومكانة عزيزة عند الله تعالى، ولذا حرم التعرض لها بأي نوع من أنواع الأذى قل أو كثر، قال الله جل وعلا في الوعيد على مطلق الأذى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(الأحزاب 58)، وقال سبحانه في الوعيد على أشد أنواع الأذى وهو إزهاق روح المؤمن عمداً بغير حق: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء 93)، ولذا صار من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام صيانة النفوس وعدم الاعتداء عليها التي هي واحدة من الضروريات الخمس التي جاءت جميع الشرائع الإلهية بوجوب المحافظة عليها وتجريم الاعتداء عليها، وهي: الدين والنفس والمال والعرض والعقل.
وتعظيماً للقتل بغير حق وبياناً لإثمه وشدة خطره جاءت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة:
- قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(الأنعام 151).
- وقال عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}(النساء 29 -30). في هذه الآية نهي عن قتل الإنسان نفسه أو قتله غيره من إخوانه المسلمين، ويدخل في عمومها أيضاً الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك أفاده ابن سعدي في تفسيره.
ولشناعة قتل النفس بغير حق وإنها جريمة لا أنكر منها ولا أبشع جعل الله قاتل النفس الواحدة كمن قتل الناس جميعاً فقال سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة 32).
والأحاديث الدالة على تحريم قتل المؤمن وتعظيم دمه كثيرة جداً:
- ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) (هذا لفظ البخاري).
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) (متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).
- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، أو يقتل مؤمناً متعمداً) (رواه أبو داود وابن حباب في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد).
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) (متفق عليه).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ}(النساء 94)، فإذا كان تبين أحوال الناس واجباً وقت القتال حتى لا يقع المسلم في خطيئة قتل مسلم فكيف بذلك في غيره من الأوقات. هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المسلم وحرمة قتله، يقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي فقال: (يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله) قال قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (متفق عليه، وهذا لفظ البخاري).
وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء فهذا رجل مشرك وهم مجاهدون في ساحة القتال لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة رضي الله عنه قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذره وتأويله.
وبناء على ما سبق من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وغيرها عد العلماء قتل النفس عمداً بغير حق من أكبر الكبائر، بل جعل بعضهم القتل أعظم ذنب وأكبر جرم بعد الشرك بالله.
هذا ما يتعلق بقتل الأنفس المعصومة من المسلمين، وأما الأنفس المعصومة غير المسلمة كأنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين ونساء الكفار وصبيانهم ورهبانهم وشيوخهم غير المحاربين منهم فأما تحريم قتل المعاهدين والمستأمنين منهم، فلحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) (أخرجه البخاري)، فمن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لم يرح رائحة الجنة) وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة) (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي)، ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) (حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجة)، ولما أجارت أم هاني رضي الله عنها رجلاً من المشركين عام الفتح وأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقتله ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هاني) (متفق عليه)، والمقصود أن من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولي الأمر لمصلحة يراها فلا يجوز التعرض له ولا الاعتداء عليه لا في نفسه ولا في ماله، وقد جعل الله نفس المعاهد مثل نفس المؤمن في قتل الخطأ تجب به الكفارة والدية.
وأما نساء الكفار وأطفالهم ورهبانهم وكبار السن منهم والعمال فقد ورد النهي عن قتل هؤلاء في الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر وأنس وبريدة بن الحصيب وغيرهم من الصحابة، كما ورد النهي عن ذلك في وصايا الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لقادة جيوش المسلمين، فتعمد قتلهم فيه مجافاة صريحة لنصوص الشريعة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) (متفق عليه)، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً) (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً) (حديث حسن رواه أحمد وأبو داود)، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة) (رواه أبو داود)، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع) (رواه أحمد)، وعن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب فقالوا: يا رسول الله أوليس هم أولاد المشركين؟ قال: أوليس خياركم أولاد المشركين) (رواه أحمد)، والذرية والوليد هم الأطفال، والعسيف هم العمال والأجراء، وأصحاب الصوامع هم الرهبان غير المقاتلين، فهذه أحاديث صريحة في النهي عن قتل كل هؤلاء عمداً حتى حال الحرب.
فالواجب نحو النفوس البشرية وغيرها الوقوف عند حدود الشرع المطهر وعدم تجاوزها والبعد عن تحكيم الأهواء، فالكل ملك لله سبحانه ولا يستباح شيء إلا بإذن مالكه، فالخلق خلقه، والحكم حكمه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة50).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
*عضو هيئة كبار العلماء
وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء