في ليلة معطرة برائحة الوفاء، ومفعمة بعبق الذكريات الجميلة، ومتسللة من الواقع عبر نافذة الزمن إلى الماضي الجميل، قال جمال الغيطاني: إلى الآن لم أتعايش مع موت نجيب محفوظ؟
***
في ليلة مليئة بمتعة استمدت من روح نجيب عمقاً وثراء وارتباطاً بالزمكان أمتعنا الأستاذ جمال الغيطاني بزوايا كانت غائبة عنا من حياة الهرم والقامة نجيب محفوظ رحمه الله. ولعلي أقف مع بعض مما استوقفني في ذلك اللقاء الرائع وما استحث قلمي على الكتابة حول تلك الأمسية التي شرفنا بها نادي الرياض الأدبي، ولست فيما أكتب لكم إلا كمن يعطيكم من على ضفة النهر كوب ماء!
***
من الإشارات الرائعة في تلك الأمسية ما أشار إليه الأديب جمال الغيطاني حول قضية الارتباط العميق بين الشخص والمكان ارتباطاً يجعل منه انطلاقة للحياة ونقطة استعادة للهدوء، وهذا ما تجلى في أدب نجيب محفوظ وفي حياته العامة، فالأديب والكاتب إذا ارتبط ارتباطاً وثيقاً وعبّر تعبيراً دقيقاً عن المساحة الضيقة التي يعيش فيها عبّر عن الإنسانية ولامس همومها وأرضى حاجاتها.. واستدل الأستاذ جمال في ذلك (بشخصيات) نجيب في رواياته التي أصبحت شخصيات عالمية يسأل عنها أبناء الثقافات الأخرى..
***
يكتب الكاتب ويبدع فيكون أحد أمرين، إما راوياً يحكي لمجرد أن يحكي ويبحث عن شهرة وخلافه، وإما أن يكتب فيشغله عن حضوره الشخصي ما هو أكبر من ذلك. فالإبداع للإبداع والكتابة للكتابة والأدب للأدب حينما تكون همّاً لحاملها فإنه يجعلها مصيره. وقد كانت الكتابة لنجيب محفوظ - رحمه الله - مصيراً، كيف لا وهو الذي ظل يكتب سبعين عاماً ما كَلَّ فيها ولا مَلَّ حتى آخر أيامه رغم عجزه عن الإمساك بالقلم ومحاولة تعلم طريقة الإمساك به من جديد بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال، وبعد ضعف بصره الشديد الذي لم يعقه عن حفظ نصوصه ومن ثم كتابتها غيباً.. فأي ولاء للقلم كهذا؟
***
كيف أن الجائزة العالمية هي من سعت إليه؛ فقد جاءته وهو في وقت قيلولة عندما أيقظته زوجته وقابل مندوب السفارة بقميص نومه، وقال ممازحاً له: (آدي نهايتكم لما تدوا نوبل لواحد من العالم الثالث).
رغم ما تعج به الساحة ممن يدسون في كتاباتهم شخصيات أو أحداثاً تقربهم زلفى لهذا التكريم..
***
الزهد والبساطة والارتباط العميق بالمكان طريق ممهدة إلى قلوب الناس، شيء مما تعلمناه من نجيب على لسان تلميذه النجيب.
***
ما تجسد في أديبنا جمال الغيطاني من وفاء مفعم برائحة الحب لأستاذه نجيب محفوظ هو امتداد لوفاء رائع من نجيب ومن أغصان شجرته، وفاؤه لمكانه وشركاء زمانه، ومن أمثلة ذلك وفاؤه لتوفيق الحكيم الذي أهدى لنجيب قلماً بثمن بخس، لكن نجيب حرص عليه ربما أكثر من ميدالية نوبل وقلادة النيل لتقديره لهذا القلم وهذا الفكر! وأي ولاء للفكر كهذا؟
***
كانت ليلة معطرة بأجود أنواع الوفاء.. وفاء جمال لأستاذه.. ووفاء نادي الرياض الأدبي لجمهوره..
almdwah@hotmail.com