عندما يجلس أحدنا مع عائلته حول المائدة، فكثيراً ما يكون هناك متسع من الوقت للتنقل عبر محطات كثيرة فيما دار ويدور داخل دائرة المجتمع الضيق حتى تتسع لتشمل قضايا العالم أجمع، إلى أن يفرغوا من مأكلهم وربما بعد الفراغ منه بقليل.
جلست مع أسرتي ذات مرة حول مائدة غداء وكان الحضور زوجتي وابنيّ الشابين وابنتي الشابة وابنتين صغيرتين، وآثرت في تلك الجلسة الصمت والاستماع وعدم المداخلة فيما يدور من نقاش، كما أضمرت على ألا أجيب على ما يسند إلي طلباً للموافقة على رأي بعينه. وأخذ الحديث مجراه متنقلاً بين محطات مختلفة دون ترتيب أو انتقاء أو تمييز، ودون تحفظ، فلسنا في محاضرة عامة أو ندوة تقتصر على موضوع بعينه، وإنما تسوق الظروف المواضيع إلى مائدتنا لنتناولها كما نتناول غداءنا.
وفي ذلك اليوم كان رفعاً مساحياً لمجتمعنا الضيق، ففلان وفلانة قد استعدا لزواجهما، وفلان يستحق، والآخر ربما، وفلان رزق بخير فحمدنا الله على ذلك ودعونا له بالتوفيق، والآخر قد حاقت به شائبة فدعونا له بأن يرفع الله عنه البلوى. وتتباين الآراء حول التفاصيل أو ربما، ويحتدم الجدل حول كل صغيرة وكبيرة، حتى وإن لم تستحق كل ذلك، غير أن الأحاديث في أغلبها للتسلية فحسب، لكن الاختلاف اليسير عند رأي مطروح قد يأخذ جلّ الجلسة. وانتقل الحديث مع مجتمع منزلنا الصغير عن الأكلات أيها أفضل، ومن هي الأقدر والأفضل في الطهي، وفي الغالب أن لكل واحدة براعتها في أكلة معينة، وإجادتها لها ولكن ربما يكون النقاش محتدماً عند التفاصيل بما يأخذ بعضاً من الوقت.
التفت أكبر أبنائي إلى التلفاز وإذا بالسيدة كلينتون تتحدث عبره، فانتقلنا بسرعة البرق للحديث عن الانتخابات الأمريكية، وأيهما أحق بقيادة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية السيدة/ كلينتون أو السيد أوباما، ويبدو أن عامل الجنس من ذكر وأنثى لم يكن عاملاً حاسماً في نقاشنا المصغر فلم تهرع النساء لمناصرة المرأة، كما لم يمل الشباب إلى أوباما بشكل مطلق، وإنما كان التباين في الرأي واضحاً، في توقعات كل منهما بالنسبة لقضايانا الإسلامية والعربية، أما الحزب الجمهوري فقد عقد للسيد مكين وانتهى أمره. هذا التباين في الآراء، هو نفسه التباين في الآراء لدى الشعب الأمريكي الذي لا يمكنه تجاوز حدود القانون.
لو كانت الآراء في مجتمعاتنا العربية تطرح للنقاش بأدب جم، وبعقل يخلو من المماحكة وسوء الظن وبطرق الأبواب وليس القفز من فوق الأسوار، على أن يكون البواب جاهزاً لفتحها لكل مخلص صادق لكان مجتمعنا العربي أفضل حالاً وأجلّ مقاماً.
ومن أمريكا انتقلنا إلى الصين في سرعة البرق ولا أذكر سبباً بعينه جعلنا ننتقل بهذه السرعة إلى هناك، فكان الجميع موافقاً على أن الصين قادمة لا محالة وكما ذكرت في كتابي عنها (ويمشي رويدا ويكون أولا) فهناك نمو حقيقي أعلى مما يعلن، ونمو الصين ينطلق من الصناعة والتقنية، وبأسعار رخيصة وجودة قابلة للتحسن. ولذا فإن الأساس قد انتهى والاقتصاد في مرحلة الإقلاع التصاعدي حتى الوصول إلى محطة التعادل، ثم التفوق. فالغد للصين لا محالة، لكن ماذا أعددنا لذلك؟
وفي سرعة البرق عدنا إلى منزلنا الصغير، وما يعانيه من نقص في ماء الشرب وليس ري الأشجار وإنما للاستخدام الآدمي فحسب ومدى معاناتنا مع الوايتات التي لا تفارق المنزل، وأخذنا في تعداد تلك القوافل المائية السائرة ذهاباً وإياباً آملين أن ينتهي أمرها بأسرع حال. وتململنا من المجاري وعدم وصولها إلى الحي وعدم معرفتنا بوقت وصولها إذا كان الأمر في إطار خطة معينة، غير أننا نلوم أنفسنا حيث لم نسأل أحد الزملاء الكرام في وزارة الماء والكهرباء عن الوقت المحدد.
واستمر الجدل حول السياسة والرياضة والمجتمع والخدمات والعالم أجمع دون أن نحل مشكلة أو نسمع صوتنا لأحد، أو نضيف جديداً وإنما نأكل ونتسلى شأننا شأن غيرنا لننتهي من المائدة، بحمد الله على نعمائه، دون أن ننسى كفارة المجلس.
ونحن في انتظار اجتماع عربي في دمشق لا ينتهي بمثل ما فعلت مع عائلتي على مائدتنا الصغيرة، متمنياً ألا يكون مجتمع منزلي الصغير وبما تطرق إليه من مواضيع وانتهى إليه من نتائج أنموذجاً يحتذى في اجتماعات أجدر بنا أن نعول عليها الكثير.