لم تترك لي حيّز فراغ هذه الكتب...
تزاحمني الركن والشرفة والردهة والجدار في احتلالها القصدي لها هسيس النَّبض... ورسيس القلب...
وصدى النية... وصوت الفكرة... وجدل العقل... وبحّة الرهق... ورواء الحلق... وابتلال اللسان...
التهمت العمر وحبسته داخل سجن إغواءاتها... صديقة تؤنس اللحظة وتملأ الساعة وتلتهم الدقيقة وتطوي الوقت...
لا أعذب من صوتها ولا أجدى من عبقها ولا أسطى من قبضتها ولا أجرأ من اقتحامها...
سيدة الحاجة... ومورد الآتي... لها عبق لا تضلّه شهية الحبر... ولها بوصلة لا تضلِّلها ومضات المروق... أوراقها بسط طائرة... وعناوينها عوالم متناقضة كلّما ابتعدت اجتمعت في العمق... وكلّما تنافرت توحّدت في الذِّهن... وكلّما اختلفت تنامت في الذاكرة...
كلّ المرايا مرآتها الكبيرة بشساعة احتلالها...
كأنّها العسكر في لحظة أهبة...
ما ظننتني لمرة واحدة تحركت خارج سقفي وعدت إلاّ وبرفقتي من أصنافها ضيوف ما يلبثون أن يحتلوا حيّزا من مساحاتي...
ذات يوم حسبتني مأمورة بالمغادرة... قبل أن أتحوّل ركاماً بين أجسادها...
وما دخلت معتركها إلاّ وكنت جندية صغيرة في محرابها...
اليوم... وبالأمس حملت حقيبتي لمعرضها...
عند مقتبل المكان بالكاد استطعت أن أغادر العربة لأدس نفسي بين مئات المتاخمين حدودها الزاجين بأعينهم في التهام عناوينها وكل يد تئن من ثقل ما يحملونه منها...
في ساحاتها وهي تتوافد بكلِّ نسمة فكر ومن حيث نبضة توجه... يلتئم القاصي من أحبارها بالداني من بحورها... التقى الناس... كثيرهم ينكفئ ليراجع مختاراته منها... والأكثر يتساءلون من فرط الحيرة عن المنتخبات من عناوينها... وثلل يلهثون في تناكب الكتوف يحصدون بالمصادفة ما يقع تحت أعينهم...
واحدة سحبت من يدي كتاباً لم تكن هناك نسخة أخرى منه... تركته لها وأنا أتأسّى على سالب الإيثار...
وآخر سبقت يده إلى نسخة أخيرة من رواية مغربية يبدو أنّها في قائمة مختارات مجموعة من القارئين...
>>>
بعد أن أودعت مختاراتي صندوقاً ناءت بحمله يدا شاب يعتمر صدرية خضراء ذات رقم سجل فوق ظهره: (حامل أمتعة رقم...)!!!
يممت شطر قسم الأطفال... قرّرت هذه المرة أن أحصد فكاهاتهم وقصصهم وتساليهم وألغازهم وألوانهم...
لأذهب بهم فأنثر ضحكاتهم وأحرِّك صمت وقار العسكر منها الذين يحتلون حولي على أهبة الجدية... ولألوِّن مراياهم بلثغة الصغار وأجدد حيويتهم ببراءة المبتدأ...
انتقيت من هذا العالم رصيداً حين أوغلت فيه... أدركت تماماً أنّ مخاطبة عقول الصغار ليست تختلف عن هذا الزخم الذي يعسكر بوقاره من حولي...
يا الله كم يفوتنا أن نبحر في الماء الصافي...
بعد أن تعكَّرت البحور...!
ونجازف بالإبحار فيها...
صديقتي الدكتورة (ف) تهاتفني الآن وأنا أكتب هنا تنوي الذهاب معي في الغد لمزيد اقتناء...
ولا يزال في طعم ذائقتي لغز حيَّرني بالمساء فيما قهقهات (مياد) ابنة التاسعة تصك أذني بعد أن وصلت للإجابة عنه قبل أن أصل إليها بمئة ثانية في زمن الفرح وبراءة الطفولة...