الحكمة تعني الصواب في الفعل والقول. ولا يكون الإنسان حكيماً إلا إذا كان ذا عقل راجح ويستخدمه في التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وفي مجريات الحياة، وفي موازنة الأمور، والميل إلى أكثرها نفعاً وفائدة، |
وفي موازنة الأمور، والميل إلى أكثرها نفعاً وفائدة، وأقلها ضرراً وخسارة. والحكمة عطاء من الله سبحانه وتعالى الذي يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة قد أوتي خيراً كثيراً. والعلم والمعرفة يزيدان الحكمة صقلاً ومادة كبيرة للتفكير والتأمل. والحكمة ليست مرتبطة بالتعليم على أي حال، فكم من بدوي في الصحراء، أو فلاح في مزرعته يمتلك رصيداً من الحكمة أكثر من بعض العلماء وأعضاء هيئة التدريس، ويعرف كيف يلخص المواقف، وكيف يستخلص العبر، وكيف يوازن بين الأمور، وكيف يحل المشكلات المستعصية، وكيف يتخلص من الحرج. والحوار التالي الذي جرى مع أحد الحكماء يوضح كيف ينظر هؤلاء إلى موضوعات الحياة، وكيف أن كل جملة أطلقها ذلك الحكيم تُعد درساً كبيراً من دروس الحياة. فقد ذهب أحدهم إلى حكيم ليسأله، وجرى بينهما الحوار التالي: |
السائل: ما هو أكثر شيء مدهش في البشر؟ |
الحكيم: البشر يملُّون من الطفولة، ويودون لو يكبرون بسرعة، ثم يتوقعون أو يتمنون أن يعودوا أطفالاً مرة أخرى، ويضيِّعون صحتهم ليجمعوا المال، ثم يصرفون المال ليستعيدوا الصحة، يفكرون في المستقبل بقلق، وينسون الحاضر، فلا يعيشون الحاضر ولا المستقبل، وبعض البشر يعيشون كما لو أنهم لن يموتوا أبداً. |
وبعد لحظات من الصمت قال السائل: |
ما هي دروس الحياة التي على البشر أن يتعلَّموها؟ |
الحكيم: عليهم أن يتعلموا أنهم لا يستطيعون جَعل أحدٍ يحبهم، كل ما يستطيعون فعله هو جَعل أنفسهم محبوبين، عليهم أن يتعلموا ألا يقارنوا أنفسهم مع الآخرين، عليهم أن يتعلموا التسامح، ويجرِّبوا الغفران. ليتعلموا أنهم قد يسبِّبون جروحاً عميقة لمن يحبون في لحظات قليلة، لكنهم قد يحتاجون لمداواتها إلى سنوات طويلة. ليتعلموا أن الإنسان الأغنى ليس من يملك الأكثر، بل هو من يحتاج الأقل. عليهم أن يتعلموا أن هناك أشخاصاً يحبونهم جداً ولكنهم لم يتعلموا كيف يظهرون أو يعبرون عن شعورهم. ليتعلموا أن شخصين يمكن أن ينظرا إلى نفس الشيء ويَريَانه بشكلٍ مختلف. ليتعلموا أنه لا يكفي أن يسامح أحدهم الآخر، لكن عليهم أن يسامحوا أنفسهم أيضاً. |
إن كل حكمة من الحكم السابقة تمثل درساً عميقاً ومفيداً من دروس الحياة، فالصحة من أغلى ما يملك الإنسان، والرسول يقول إن لنفسك عليك حقاً، وإهدار الصحة من أجل جمع المال يمثل عمى فكرياً عند كثير من الناس، وسوف يصرف المال الذي ضيع الصحة من أجله في محاولة لاستعادة تلك الصحة، ولاة ساعة مندم، فقد يسبق السيف العذل، ويستحيل إصلاح ما أفسد الدهر. ومن جهة أخرى، لو وعينا الدرس الذي يقول (ليس الغني من يملك أكثر، ولكن الغني هو من يحتاج الأقل) لتغير الكثير من سلوكنا الاستهلاكي، ولوفرنا الكثير من الأموال، فكثير منا يشتري أشياء لا حاجة لها، وكثير من تلك الأشياء لها بدائل بأسعار أقل. ولو طبقنا درس التسامح والغفران، لتقاربت النفوس، وعم الحب والتعاون والتكاتف. علينا كما قال الحكيم أن نتجنب جرح مشاعر الآخرين لأن ذلك يحدث في لحظات، وقد نحتاج لمعالجة آثاره إلى وقت وجهد طويلين، وقد نفشل في جهودنا تلك، لأن الجروح النفسية تبقى غائرة في الأعماق ومن الصعب أن تندمل، قال الشاعر: |
إن القلوب إذا تنافر ودها |
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر |
ونحن نعيش في زمن أصبح من الممكن جبر كسر الزجاج بفضل التقنيات الحديثة، ويمكن كذلك جبر كسر النفوس ولن يتحقق ذلك إلا إذا شاع التسامح، ليس فقط مع الآخرين وإنما كما قال الحكيم مسامحة النفس على تقصيرها وأخطائها، ومحاولة استخلاص العبرة من ذلك كله. |
ونختم هذا المقال ببعض حكم واحد من أشهر حكماء التاريخ، ذلكم هو أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمن أقواله الحكيمة التي نحتاج إلى تطبيقها في حياتنا المعاصرة قوله: إن النعمة موصولة بالشكر والشكر متعلق بالمزيد ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد، والشكر ليس فقط كلاماً باللسان ولكنه سلوك وعمل لقوله تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، وقال رضي الله عنه: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلَّة الآثام، وراحة القلب في قلَّة الاهتمام، وراحة اللسان في قلَّة الكلام. إن كل عبارة من تلك العبارات الأربع تعد وصفة طبية للجسم والنفس والقلب واللسان، لو طبقناها لاسترحنا وأرحنا، وقال رضي الله عنه: من ينصِّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره.. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، وقال: العلم خير من المال، لأن المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خازنو المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعباؤهم مفقودة وآثارهم في القلب موجودة. إنها كلمات من ذهب وتلخص تجارب كثيرة في الحياة، وتختصر على من يطبقها الكثير من الجهد والوقت والمال، وتخفف همومه وغمومه، خصوصاً إذا صاحبها توازن نفسي يستمد عونه وقوته من خالق الكون، ومن الإيمان بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وعليك أن تبذل الجهد، وأن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً وأن تعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وترضى بما يقسمه الله لك بعد أن تبذل أسباب الفلاح والنجاح. والله من وراء كل شيء. |
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية |
فاكس 012283689 |
|