كم هي لفتة نبيلة من وزارة الثقافة والإعلام عندما بادرت إلى تكريم الرواد المؤسسين في الصحافة، لأننا عند تتبعنا للمسار التاريخي لتجربتهم ستبادرنا حتماً الظروف الزمكانية الصارمة التي حدقت برواد عالم الصحافة أثناء فترة التأسيس، فمن هناك تحديداً يتجلى ملامح الحلم المطوق بالرؤيا التي كانت تقود خطواتهم، ذلك المشروع الذي كان يتخلق في وسط شديد الجفاف والصرامة.
ولعل الصحافة إحدى أبرز ملامح مشروع الدولة السعودية الحديثة، حيث ينتقل فيها الصحراوي والزراعي البسيط إلى المدني المعقد والأكثر تركيباً.
لتتجاوز الثقافة أوعيتها الشفوية البسيطة وتغادر سهوله المنبسطة أحادية الطابع ليس فقط إلى مرحلة التدوين، بل التدوين المرتبط بتجربة عالمية متطورة هزت العالم وغيرت ملامحه منذ اختراع مطبعة غوتنبرغ.
هذا التجاور الذي تم خلال المرحلة التأسيسية بين الدولة والصحافة إن كان خدم الصحافة في نواحي، إلا أنه أيضاً استلب بعضاً من حيوية التجربة وزخمها، واتصالها المباشر بالجماهير، حيث كانت هناك الخطوط والمحاذير والأسقف الضيقة في التعبير في ظل مناخٍ سياسي مشغول بمرحلة التأسيس وترسيخ دعائم الدولة الفتية ومجابهة محيط دولي قلق وقابل للانفجار، على حساب حرية الرأي والتعبير.
وإن كان ما سبق هو التحدي الأول الذي ترصد بتجربة الرواد من ناحية، فإننا نجد من ناحية أخرى أن جميع المشروعات التنويرية التي تجعل من الجدة والتغيير شعاراً لها لابد أن تلقى مقاومة ورفضاً عنيفاً على المستوى الصحراوي المتسم بالاسترابة من الغريب والمختلف دوماً، والمتقاطع مع النمطية التي آلفها المكان عبر مئات السنين.
هذا كله جعل من المشروع التأسيسي الذي قامت به نخبة مستنيرة من رواد الوطن مشروعاً رائداً استطاع أن يتغلب على ظرف الزمان والمكان لينطلق كواجهة حضارية أولى لتجربة الإنسان السعودي.
كانت تجربة الوالد -أمد الله في عمره- مع جريدة الجزيرة قد بدأت في مطبعة صغيرة تقبع في بيت شعبي في الرياض، حيث المطبعة والمؤسس وهيئة التحرير كلهم سوياً, يكابدون المكان لا يمتلكون سوى عدد بسيط من تجارب سابقة يؤسس عليها الوالد، كتجربة الأستاذ حمد الجاسر - رحمه الله- أو تجربة الصحافة في الحجاز، التي باشرها بنفسه عندما كان يدرس في دار التوحيد بالطائف أو المعهد العلمي في مكة المكرمة.
ولأن الريادة لا تنحصر في فعل أحادي منقطع عن محيطه بل هي رؤيا ومشروع متكامل، فالوالد أتاح مساحة للمرأة أيضاً فوق صفحات (الجزيرة) عندما كانت مجلة، وفي الوقت الذي كان مجرد التلفظ باسمها في مجالس الرجل (عيب كبير)، حيث كانت والدتي -رحمها الله- من أوائل السيدات اللواتي حررن صفحة في الجزيرة (المجلة) تحت مسمى (حواء).
وعندما اختارت الجزيرة أن تصمت قليلاً وتتريث ومن ثم تواصل عدوها في سباق المسافات الطويلة عبر نظام المؤسسات الصحفية، أصبحت الجزيرة إحدى أخواتي كبرنا وترعرعنا ونحن نراها تتنقل بين الأيدي والأعين، تحلق هنا وتستريح هناك، إما مجلة أو لاحقاً على شكل جريدة من كبريات الصحف في المملكة، تطبع عبر الأقمار الصناعية بين المدن.
من الغبن أن أوجز واختصر هنا رحلة طويلة وعجيبة كتلك الرحلات التي تكون لأبطال الأساطير والخوارق.... لكن في النهاية لا بد أن نقف إجلالاً واحتراماً لنمنح باقة امتنان لجميع من نفخ في صلصال الحروف وأسس جزءاً من مشروع الإنسان الحضاري في هذا المكان.