قراءة - عبدالله السمطي
يقدم معرض الفنانات التشكيليات الرابع الذي أقيم بمركز الأمير فيصل بن فهد للفنون التشكيلية بمعهد العاصمة النموذجي بالرياض خلال الفترة ما بين 5-14 صفر 1429هـ (12-22 فبراير 2008م) يقدم لنا صورة بانورامية عن حالة الفن التشكيلي السعودي الراهن، في صيغته النسوية، فالمعرض الذي شهد مشاركة واسعة من لدن الفنانات التشكيليات السعوديات حيث شاركت فيه (159) فنانة تشكيلية، يعطي جملة من الدلالات المهمة التي تؤسس للحظة الراهنة للفن التشكيلي في السعودية، ذلك أن أغلب المشاركات من الأجيال الفنية الجديدة التي تقدم وعيها الفني بجسارة فنية ملحوظة، على مستوى الرؤية الفنية للوحة، وعلى مستوى استثمار العناصر والأدوات الفنية المختلفة.
في ظل هذا الوعي تنتظم اللوحات التشكيلية المشاركة في المعرض الرابع للفنانات التشكيليات جملة من الأسس الفنية والدلالية العامة التي تشكل المهاد الجمالي الذي انبثقت منه هذه اللوحات، وتتجلى هذه الأسس في:
- أولا: النهل من البيئة الوطنية، سواء على مستوى تفاصيل المكان، بعاداته، وتقاليده، وملامحه، أم على مستوى الشخوص، والوجوه، والتعبير عنه ذلك عبر رؤى فنية متعددة، ومن خلال مدارس فنية متنوعة.
- ثانيا: النزوع إلى التقاط اللحظات الجمالية التي يمتزج فيها الإدراك البصري المباشر وزاوية المنظور بالإدراك الكلي، بمعنى أن الفنانة لا تكتفي فحسب بالتقاط المشهد البصري بل تعكس عليه رؤيتها الوجدانية في حوار لوني عميق بين الذات والموضوع.
- ثالثا: البحث التجريبي عبر اللوحة عما يغير من آلية التلقي البصري للوحة، وهذا التجريب يفضي إلى إيلاء ما ليس مرسوما بالضرورة على سطح اللوحة قدرا من الاهتمام، وهنا تحفز اللوحة المشاهد إلى تأمل ما وراء اللوحة، مضمونها الخفي، ونصها الرمزي غير المباشر.
- رابعا: كثافة المزج بين الأشياء، وبين أفق الداخل - الذات - إذا صح التعبير- وبين الأشياء المتعددة سواء كانت أشياء الطبيعة أم أشياء الحياة اليومية، في لوحات حملت دالة: (تكوين) وقد تكرر هذا المسمى في لوحات عدة على امتداد مساحة المعرض الكبيرة.
- خامسا: البحث الدائم عن جدة المضمون الفني للوحة، بغض الطرف عن هوية الاتجاه الفني الذي تنتمي إليه اللوحة سواء كانت واقعية أم تجريدية أم تأثرية أم رمزية، حيث قدمت معظم الفنانات المشاركات وتبعا لتجاربهن الفنية نوعا من الاجتهاد الفني الملحوظ على المستوى التكويني للوحة، وعلى مستوى تعدد الخامات المستخدمة في الإنتاج الفني والدلالي للوحة.
إن القراءة الموضوعية للوحات المشاركة في هذا المعرض تقودنا بداءة إلى تأويل المتن الدلالي الذي تشكلت منه هذه اللوحات، كما أن تركيزنا في هذه القراءة سوف ينجذب إلى أربعة مجالات هي: التعبير الفني عبر الوجوه، التعبير من خلال تمثل التراث الشعبي، اللوحة النصية - إذا صح التعبير - التي جاءت من خلال دالة: (تكوين)، التجريب التشكيلي، وهي أبرز المجالات التي يتسم بها هذا المعرض الرابع.
حوارية الوجوه
تشكل الوجوه بزواياها المتعددة، مهادا أساسيا في تجربة الفن التشكيلي، فهي بخصوبة عوالمها، وباتساع فضاءاتها في تعدد الملامح والتقاطيع، وفي حملها للدلالات الزمنية، والقومية، جعل منها نبعا أثيرا لدى الفنان التشكيلي، وانتقلت بها الاتجاهات التشكيلية من أفق البورتريه، والنظرة التقليدية الكلاسيكية التصويرية، إلى أفق آخر يعكس التعبيرات الجلية والمضمرة، كما يتبدى في الفن الحديث لدى ماتيس وبيكاسو على سبيل المثال.
ويتضمن المعرض مجموعة متنوعة من اللوحات التي شكل الوجه- الوجوه- فضاءها الجمالي المهيمن، حيث استخدمت مجموعة من الفنانات الوجوه كتيمة فنية لتشكيل اللوحة، ومن هذه اللوحات: (وجوه) أمل فلمبان، (تكوين) هدى جبلاوي، (رؤى) غادة علي آل حسن، (يا ترى) إيمان الجبرين، (نظرات تأمل) داليا اليحيى، (ألم) نورة النهاري، (لم لا تعود) خلود عسيري، (وجوه) جمانة باكير، (الإرهاب) ريم الفرم، (ثلاث حالات) بدرية الناصر، (تأمل) ريم الريني، (تذبذب) هدى النبهان، (تأمل) خديجة توفيق، (زمن) فاطمة صالح التميمي
في هذه الوجوه نحن حيال رؤية فنية تجعل من التركيز على دالة ميسمية تمثل صورة التعبير الإنساني أساسا للعمل الفني، الوجوه في هذه اللوحات هي وجوه متكلمة، دلاليا ورمزيا، ليست وجوها صامتة، إنها في تأملاتها وتقاطيعها تفضي وتبوح، وتدل، وهي لذلك لا تؤدي وظيفة توصيلية مباشرة قدر ما تؤدي وظيفة تأويلية.
إن عناوين اللوحات تومىء إلى التأمل، والرؤى، والتذبذب والألم، وهي بذلك تأخذ قيمتها من هذه الصورة البصرية التي يكون عليها الوجه في حالات مزاجية مختلفة.
في لوحة (وجوه) لأمل فلمبان نحن حيال حوارية متأملة، تتخذ فيها الوجوه رمزية الزهور المائلة الناسكة في تأملها، تتخذ تلقائيتها وإيقاعها، واستطالتها، وتتشكل اللوحة من أربعة وجوه من جوانب مختلفة، تركز فيها الفنانة على تقديم نظرات متعددة في تأملها، وقد رسمتها بشكل تلقائي يستند على بعد رمزي مثلته آنية الزهور الجانبية المجاورة للوجوه، كأنها تقوم بوضع معادل رمزي لحركة الوجوه ونظراتها مع وضعية الزهور في الآنية، وفي مشهد آخر تعبر عن شدة هذا التأمل عبر الوجه بوضع طائر على الرأس، إذ تختفي الحركة تماما، ويصبح التأمل الساكن هو ما يسم هذا المشهد ويعبر عنه.
وتتحول الوجوه لدى هدى جبلاوي إلى أقنعة، وكما أن فلمبان قدمت الوجوه بشكل مستطيل ربما ليتواءم مع شكل الزهور، مركزة على استطالة الأنف ودقته، فعلت جبلاوي الأمر نفسه لتعبر أيضا عن مدى حدة التأمل من خلال القناع أيضا وقد جعلت من استدارة القناع من أعلى تيمة دائرية متكررة في اللوحة بأحجام متعددة، ربما لتبرز معنى الاحتواء والكلية، وتمحوا ما بين نقطة البداية والنهاية من وجهة زمنية مكانية، على اعتبار أن الشكل الدائري يقود إلى ذلك،
وهو ما نراه أيضا في (رؤى) غادة آل حسن، حيث الاعتماد على الأشكال الدائرية، فالوجوه مستديرة شبحية، ربما لتعبر عن رؤى كابوسية أكثر منها رؤى إشراقية، حيث الفم غائب من الوجوه، وحيث سكون الأحلام تقطعه مشاهد متنوعة لا تتلاقى أو تتطابق كما لغة الحلم نفسه: طائر ميت، ومفتاح ملقى، وجدران قديمة، وقصاصات صحف، ودوائر ومثلثات.
وفيما عبرت هدى النبهان في (تذبذب) بثلاثة أشكال، اختارت فاطمة التميمي وجه عجوز لتعبر عن الزمن عبر التجاعيد، فيما نعثر في (وجوه) جمانة باكير على تجريب، بأشكال متنوعة انسيابية، هندسية طولية. وفي لوحة داليا اليحيى (نظرات تأمل) يتوارى البعد التصميمي الحاد للوجه لتتخذ من الرسم التلقائي الطفولي الانسيابي، والألوان الهادئة مهادا لتوصيل هذا التأمل، في المدينة الصامتة الساجية التي تتوارى على هيئة بنايات وطرقات وأشكال متعرجة. ولا يقف التعبير عن الوجه عند حالة الإفصاح به، أو تقنعه، بل يتعدى ذلك إلى محاولات للتعفية، والإخفاء، وتورية الوجه، وقد بدا ذلك في عدة لوحات كما في (يا ترى) لإيمان الجبرين، و(انكسار) لنورة ناصر النهاري، فالوجه المغيب الذي لا يتبدى منه سوى العينين لدى الجبرين، يتحول إلى سؤال، في إشارات متكررة إلى الرؤية التي يحملها سؤال اللوحة (يا ترى) وهو سؤال مفتوح على تأويلات عدة.. الوجه هنا يشي في حالاته الستة المختلفة الأمامية أو الجانبية بمدلولات عدة أولها الإحساس بحزن ما، وآخرها التأمل، وهو الإحساس ذاته الذي تقودنا إليه (انكسار) نورة النهاري، حيث تعفي الفنانة على الوجه تماما، تخفيه ولا تظهره، في مشهد مأساوي تعبر عنه حركة وضع اليدين على الرأس وهو ما ينقل حالة الحزن التي يعبر عنها غالبا بشكل الوجه وملامحه المقطبة الأسيانة إلى التعبير عنها بوضع الجلسة نفسها، وبحركة الذراعين، وهو ما يضفي دلالة جديدة للتعبير بالجسد الإنساني عن القيم الوجدانية والمعنوية المختلفة.
إن استثمار الوجه كتيمة فنية تم تمثلها من وجهات دلالية عدة، يؤكد على أن الفنانات لا يقفن عند الحالة الأولية الانطباعية للوجه، إنما يبحثن عما وراءه من دلالات، ذاتية أم موضوعية، وهو ما يؤكد على قيمة ارتباط التعبير الإنساني بأحداث الواقع وتجاربه، وانعكاس هذا الواقع على الإنسان بشكل رمزي أم بشكل تجريدي، تغيب فيه الحركة، ويبقى التأمل بوصفه عنوانا لسؤال، وهاجس ليقين تأويلي يتوارى في فضاءات اللوحة الفنية.