الكتابة الأدبية.. الرواية نموذجاً
معايير الكتابة الأدبية تتميز بالنسبية والمرونة والذاتية مقارنة بالكتابات الموضوعية، مما يجعل إشكالية الكتابة بها في العالم العربي أقل وضوحاً ورصداً، يضاف إلى ذلك، أن الآداب عموماً، نشأت وتطورت في ثقافة شفوية، فالطريقة
الفنية (التعبير والتلقي) فيها شفوية، حتى وإن تحولت إلى نص مكتوب، فهو نص سمعي كشعرنا العمودي المكتوب. ويمكن القول إن الطريقة الشفهية كانت مهيمنة على أغلب الأعمال الأدبية في حضارات الشعوب حتى العصور الحديثة في أوروبا، حين انتقلت أنماط مهمة من الكتابة الأدبية من المجال السمعي إلى المجال البصري، نتيجة التطورات الهائلة التي حدثت في أوروبا خاصة الطباعة، وصعود المجتمع المدني وسيطرة البرجوازية..
وإذا أخذت الرواية كمثال، باعتبارها أدباً كتابياً بامتياز وفناً مدنيا.. نجد أنها بشكلها الحديث ظهرت في القرن الثامن عشر، وإن كانت لها جذور متعددة في الآداب السردية كالحكاية والسيرة والملحمة والأسطورة والخرافة.. وتهتم الرواية بالحوار (الخارجي أو الداخلي) أكثر من الأحداث، وبالموقف أكثر من الحركة، رغم أن الروايات الكلاسيكية الكبرى التي ظهرت في القرن التاسع عشر تقوم على الأحداث الواقعية، إلا أنها في نفس الوقت تقوم بمعالجة فلسفية للفرد والمجتمع، وبتحليل النفس البشرية وتغوص في أعماقها وتعرض لتناقضاتها مع الذات ومع الآخر ومع الطبيعة.. بحيث تكون الصور الواقعية ممثلة للأجواء الداخلية لشخصيات الرواية في محاولة لكشف الجوانب الخفية للشخصيات..
وفي القرن العشرين دخلت الرواية في عوالم أكثر عمقاً في الحلم واللاوعي والعبث والجنون والرمز المركب والدخول في التفاصيل الدقيقة والهوامش المهملة.. وقل الاهتمام بالحبكة المنظمة والشخصيات الواضحة المعالم، وأصبح الاهتمام بجوهر الحدث وتداعياته أكبر من الحدث نفسه..
ذلك يعني أنه لا يمكن تأليف الرواية ارتجالاً كما تؤلف الحكاية، فلا يمكن الاعتماد على موهبة السرد فقط، بل لابد من مواهب متعددة في اللغة والفن والفكر.. وكذلك لا يمكن الركون إلى تلك المواهب فقط، بل لابد من تنظيمها بإحكام، ويحتاج الاستعداد لكتابتها إلى خلفية ثقافية ثرية وسعة اطلاع وتجربة ذاتية وموقف فلسفي ورؤية جمالية، ويتطلب تجهيزها تدوين معلومات مسبقة وترتيبها، ويتم إنتاجها بعد سلسلة من المراجعات والتنقيح والجهد المنظم.. الخ.
التمييز مهم بين انتماء العمل السردي للحكاية المسموعة أو انتمائها للرواية المقروءة.. فالنص السمعي، يتم تلقيه في محيط خارجي حي، مثل إلقائه أمام جمهور، مما يؤثر في توجيه المؤلف وفي سياقات النص وطرق تعبيره، بينما النص البصري مستقل بذاته يتم فهمه وتفسيره انطلاقا من داخله، ولا علاقة له بالخارج ولا بحضور المؤلف إلا من خلال الاستدعاء الذهني لدى القارئ. هذا الفرق يعني اختلافاً كبيراًُ في اللغة، حيث النص البصري يمكن المتلقي من الدخول في بناء النص عميقاً وفهم تركيبته وعلاقة عناصره باستقلالية، مما يتيح فرصة للمؤلف أن يدخل في معالجات معقدة ومركبة.. بينما النص الشفوي لا يمنح المتلقي هذه السعة الدلالية عدا الانطباع الأولي وتفسير المعاني عبر الحوار المباشر مع المؤلف..
إذا استعرضنا الروايات العربية منذ بداية الظهور الجاد لها (1914م) سنجد بشكل عام أنها أقرب إلى الحكايات (نص سمعي) وإذا انتقلنا إلى منتصف القرن العشرين حتى وقتنا الحالي سنجد أن هناك روايات نقلت النص إلى الحيز البصري وأخذت بالمقومات الفنية للرواية المبدعة من: حبكة درامية، سياق فني متماسك، ثراء لغة وتفعيل مفرداتها، جزالة لفظ وجمال صياغة، إبداع صور، عمق رؤية، بحث في مكنونات الذات، تعرية التناقضات، اكتشاف التفاصيل، استخدام اللاوعي والرمز والحلم.. الخ، ولكن هذه الروايات المبدعة تمثل الأقلية بينما غالب المنتج الروائي لا يزال أقرب للحكاية، وعلاقتها بالرواية علاقة نسبية..
ولو راجعنا الإنتاج الروائي المحلي في المرحلة الانفتاحية الراهنة، سنجد أن هناك رواجا لكوارث أدبية تسمى روايات! حكايات سماعية تكتب بلغة ركيكة وبأسلوب تقريري ساذج ومباشر، معتمدة على الذائقة الجماهيرية الشفوية المتلهفة لكشف الخبايا، وتتعامل مع الرواية كأحداث إخبارية وحكايات وسير ذاتية تقريرية، وليس كفن روائي له مقوماته الفنية الجمالية. في مرحلة الانفتاح هذه هناك جمهور متعطش لكشف المستور من السلوكيات الاجتماعية والسياسية والدينية.. ليس مهماً أن تكون حكاية أو مقالة أو خبر أو قصيدة أو رسالة إيميل.. ليس مهما الشكل والطريقة الذي يصاغ به الأفكار والإبداع.. المهم فضح المستور!! لذلك تجد كتب طبع على أغلفتها مسمى (رواية)، وهي لا علاقة لها بالرواية حتى ولو جزئياً..
كشف المستور وكسر التابو في حد ذاته ليس عيباً في الرواية، بل هو لخدمة فنية الرواية، لكن ليس العكس، ليس أن يكون العمل الفني في خدمة الفضائحية! فهناك فارق بين الإثارة السطحية الجماهيرية والإثارة الفنية العميقة جمالياً.. إن الروائيين والروائيات الذين لا يدركون هذا الفارق، يهربون من النقاد والمثقفين، مرددين فكرة أن الجمهور هو الناقد الأول، وأن النقاد والمثقفين هم مجرد منظرين نخبويين يعرقلون الحراك الأدبي..
إن عدم إدراك هؤلاء للفرق بين الرواية وبين الحكاية، ناتج عن عقلية مرجعيتها ثقافة شفهية تعتقد أن أساس الرواية هو سرد (الحكي) و (السواليف) عن الأحداث على حساب ما وراء الأحداث، وعن الحركة (الأكشن) على حساب الحالة والموقف.. وقد يحاججك بعضهم بأن المهم هو أنها ممتعة، وأن الهدف الأول للفن هو المتعة.. وأنا أقول أن التهريج في السيرك فن جميل وممتع، ولكنه في المسرح يصبح ساذجا سطحياً متعته سريعة الزوال.. وكذلك أقول إن الحكايات فن أدبي كسائر الفنون الإبداعية، لكن عندما تكون مهيمنة على الرواية تغدو كالتهريج في المسرح..
كذلك يعتقد بعض الإصلاحيين والناشطين الحقوقيين أن المهم هو توصيل الفكرة الإصلاحية، بغض النظر عن الوسيلة كالقالب الجمالي وعمق الرؤية.. والخطورة هنا أن الغاية الإيديولوجية تبرر الوسيلة الفنية! أي الرضا بركاكة العمل والافتقار للمهارة وقلة الاطلاع وسذاجة الطرح وضعف الثقافة وسطحية الأفكار من أجل إيصال المضمون.. إنه ترويج للاستهتار بالمهنية والمهارات ناهيك عن هبوط الذائقة الفنية والاستخفاف بعقول الناس..
وقبل الختام، من المهم أن أميز هنا بين أدبيات وأدباء أصحاب موهبة في الرواية يكتبونها وفقا لطبيعتها الفنية ولهاجسهم الإبداعي، وبين كاتبات وكتاب ليسوا أدباء في الأساس ولا يعنيهم فن الرواية، ولم يعرف عنهم اهتماماً أدبياً، منهم صحفيون وسياسيون وناشطون وحكواتية إنترنت.. هم طارئون على هذا الأدب، تعاملوا مع هذا النسق الأدبي كوسيلة تعبير شفهية للإخبار بالمعلومات، وهذا حقهم المطلق، وحقنا أن نبين أن أعمالهم عشوائية، وأن حجم المبيعات ليس سوى خدعة مؤقتة.
المحصلة، إذا كان النص الأدبي السمعي يمكن مبدعاً فنياً بالاكتفاء بالموهبة متضمناً سياقاً ارتجالياً مسترسلاً غير مترابط، فإن النص الأدبي البصري لكي يؤدي وظيفته الفنية والحضارية لا يكتفي بالموهبة بل يفترض فيه المهنية العالية من تنظيم وتماسك ووحدة، وهذا ما تفتقر إليه الثقافة العربية.
alhebib@yahoo.com