كنت سأواصل الحديث عن الزيارة الأخوية السعيدة لحضرموت، وهو الحديث الذي نشرت أولى حلقاته في الأسبوع الماضي بعنوان
(عبق الأُخوَّة في حضرموت)، لكن الأحداث التي حدثت مؤخراً على الساحتين العربية والدولية تدمي قلب كل من لديه ذرّة من إيمان، وتجعلني - لذلك - أرجئ مواصلة الحديث عن تلك الزيارة إلى وقت آخر - إن شاء الله - لأتكلَّم عن شيء من تلك الأحداث.
قلت مراراً - كما قال كثيرون غيري - إن مَن يتأمل تاريخ العلاقات بين المسلمين والغربيين، منذ بداية الاستعمار الغربي لبعض البلدان الإسلامية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، ناهيك عن تاريخ تلك العلاقات فيما قبل ذلك القرن، يدرك غاية الإدراك مدى عداوة الغرب للإسلام وأهله، ومَن يتدبَّر واقع هذه العلاقات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بالذات يتضح له جلياً أن تلك العداوة ما زالت تزداد عتواً وشراسة.
لن أتكلَّم عن تلك العداوة الراسخة، التي من أوضح الأدلة على شدَّتها ما ارتكبته - ولا تزال ترتكبه - في العراق وأفغانستان زعيمة الغرب الكبرى، التي لم تحد قيد أنملة عن التمسُّك بما صبغ نشأتها الأولى منذ تلك النشأة. فالجميع شاهدوا - وما زالوا يشاهدون - ما ارتكبته - ولا تزال ترتكبه - هي ومَن تحالف معها في عدوانها في البلدين المذكورين.
فجبر الله مصيبة أمتنا بعراق عربي إسلامي كان يقطع شوطاً بعيداً في التقدم العلمي والتقني، وكانت قوته الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني أشدِّ الناس عداوة لهذه الأمة، ورحم الله بلداً إسلامياً كان جهاده محلَّ إعجاب الكثيرين وتقديرهم، فأصبحت أرضه - بعد احتلال أمريكا له - مسرحاً للجرائم، ومجالاً فسيحاً لزراعة الأفيون والمخدِّرات.
الكلام، هنا، مقتصر على قضيتين: قضية الرسومات الساخرة بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ودينه وأمته، وقضية ما يرتكب في غزة بخاصة وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، عام 1967م، بعامة.
عندما نشرت إحدى الصحف الدنمركية تلك الرسوم، ورفض رئيس حكومة الدنمرك مقابلة سفراء الدول الإسلامية في بلاده، كتبتُ مقالة عنوانها (السخرية بالرسول واحتقار المسلمين)، ومما قلته فيها: ليس من المستغرب أن يتجرأ من أعداء المسلمين ممن ارتكب ما ارتكب؛ ذلك أن المسلمين، قادة وشعوباً، وصلوا في العقدين الأخيرين بالذات إلى درجة من استمراء الإذلال والإهانة لم تكن في يوم من الأيام متوقَّعة، لكن المستغرب حدوث ما حدث في الدنمرك بالذات، وهي من بين الدول الغربية التي لم تظهر عداوتها للمسلمين باستعمار بلدانهم وارتكاب مختلف الجرائم ضدهم. ومن الصعب إزالة ذلك الاستغراب إلا في ضوء ما تدل عليه الآية الكريمة {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. وبعد أن أثنيت على موقف حكومة وطننا العزيز، الذي أظهرته حينذاك، وموقف بعض التجار والأغنياء الذين قاطعوا المنتجات الدنمركية اختتمت تلك المقالة بالقول: إن اتخاذ موقف حازم سيجعل دولاً أخرى تفكر جدياً فلا تسمح بأن يرتكب ما ارتكب في الدنمرك، وإلا فإن من الدول من ستحذو حذوها.
على أن الغضب المحمود، الذي عبَّرت عنه أمتنا المسلمة في كثير من أقطارها بأساليب متنوِّعة، واكبه انضمام إخوان إلى من كانوا السبب في ذلك الغضب في إضمار مشاعر الكره للإسلام وأهله في بلدان أوروبية عديدة ولدى بقايا المستعمرين الأوروبيين الحاكمين في نيوزيلاندا، وذلك بإعادة نشر تلك الرسوم البشعة، مظهرين أنهم بذلك يعبِّرون عن احترامهم لحرية التعبير، وهم يعلمون مثل غيرهم - وبما أكثر من غيرهم - أنهم لا يستطيعون أن ينتقدوا ما يروِّجه الصهاينة من مزاعم، وكان أن كتبت مقالة بعنوان (حصر الهدف أضمن للنجاح)، تحدَّثت فيها عن تضافر أعداء أمتنا ضدها، وتضامنهم مع من بدأ الإساءة إليها. ومما قلته: إنّ وقفة بعض التجار بمقاطعة المنتجات الدنمركية جديرة بالثناء، وإن مما يحمد للمستهلكين أن يحرصوا على الشراء من المحلات التي نفذت المقاطعة مشكورة، وإن مما يحسن أن يركز عليه - في ظل الظروف الحاضرة - حصر المقاطعة على منتجات الدنمرك لأن هذا أدعى للنجاح.
ولقد كتبت مقالة ثالثة عنوانها (أبوا إلا إظهار العداوة والبغضاء). ومما أشرت إليه فيها أنه لم يشذّ عن التعبير عن الغضب الإسلامي إلا بعض من حملة الأقلام الذين من شمائلهم التسابق إلى النيل من الأسس التي قام عليها حكم وطننا العزيز، وعرف عن كثير منهم تهافتهم على مقرات البعثات الدبلوماسية ليبدوا للمسؤولين فيها مدى حبهم لثقافة (الآخر)، الذي تبرهن مواقفه، قولاً وفعلاً، أن ذلك الحب من طرف واحد. ومما أشرت إليه، أيضاً، قول مسؤول في الخارجية الفرنسية - عند ما سئل عن إعادة صحيفة فرنسية نشر الرسوم الساخرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودينه وأمته-: إن حرية التعبير يجب أن تحترم. ولم يخجل ذلك المسؤول من تاريخ بلده الاستعماري البغيض المنافي للحرية، وبخاصة في الجزائر، وتسمية المقاومة الجزائرية بالإرهاب. بل لم يخجل مما يعلمه الكثيرون من سحب وزير التعليم في بلده رسالة دكتوراه قبلتها جامعة فرنسية من باحث فرنسي غير مسلم لمجرد أن كاتبها أثبت بالوثائق أن عدداً ممن قيل إنهم كانوا ضحايا النازية لم يكونوا بالمقدار المتداول تزويراً.
وفي الأيام الأخيرة أعادت سبع عشرة صحيفة دنمركية نشر الرسوم المشار إليها في يوم واحد؛ ما يعني تحدِّياً واضحاً لمشاعر المسلمين واستفزازاً لها. وأبدى المسلمون غضبهم في بعض أقطارهم، وبخاصة في السودان التي يرجو كل مخلص من المؤمنين أن يعينها على المتكالبين في عداوتها من الداخل والخارج. وفي جو هذا الغضب تناقلت وسائل الإعلام قولاً لوزير داخلية ألمانيا اختلفت رواياته وإن جاء مدلولها متشابهاً، وهو أنه لا يعارض - إن لم يكن يؤيِّد - أن تعيد صحف أوروبا نشر الرسوم المذكورة بحجة حرية التعبير. هل يسمح ذلك الوزير وأركان الحكومة، التي هو عضو فيها، أن ينشر ألماني قولاً يناقش فيه مصداقية ما يتداول عن الهولوكوست بطريقة علمية؟ هل يمكن هو وأمثاله أن يقولوا لو حدثت تلك المناقشة: إن هذا من حرية التعبير التي يجب احترامها؟
وكان من علماء الشريعة من دعوا إلى مقاطعة البضائع الدنمركية، وأدّت دعوتهم دوراً في تبنِّي بعض الناس للمقاطعة. لكن من أرباب تلك البضائع، الذين تضررت شركاتهم من المقاطعة، من أصدر اعتذاراً، وهنا أفتى الداعون بإنهاء المقاطعة.
أما القضية الثانية فهي ما يرتكب في غزة بخاصة وفي الأراضي الفلسطينية بعامة. وجرائم الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني متواصلة منذ وعد بلفور، ودعم الإدارات الأمريكية لهم متواصل أيضاً منذ ذلك الوعد، على أن تلك الجرائم ضد المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتها الآن حماس، تضاعفت، وما يرتكب منها الآن أشبه ما يكون بحرب إبادة شملت الرضع من الأطفال. وليس غريباً أن تحول الإدارة الأمريكية دون إصدار إدانة دولية لتلك الجرائم، مع أن مثل هذه الإدانة لو صدرت فهي مجرد ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. ليس غريباً أن تحدث تلك الحيلولة.
ذلك أن مَن يفرِّق بين موقف هذه الإدارة وموقف الكيان الصهيوني لم يتأمل الأحداث أو متجاهل للحقائق، بل إنها كانت المحرِّضة له في عدوانه الأخير على لبنان وإطالة أمده، وهي المحرِّضة والداعمة في مواصلة ارتكاب جرائمه ضد المقاومة الفلسطينية.
وموقف العرب، مما يرى الجميع من جرائم صهيونية، موقف ليس بجديد، وقد كتبت عنه مقالة في صحيفة الوطن بتاريخ 25-1-1423هـ عنوانها: (رحم الله الكرامة)، ثم كتبت مقالة عن الصفة الثانية في صحيفة الجزيرة بتاريخ 7-3-1425هـ عنوانها: (.. ورحم الله الحياء). وليس لدي من الأدلة ما يفيد بأن هاتين الصفتين قد بعثتا. ولقد كتبت قصيدة عنوانها: (صدى العيد)، مستلهمة من قصيدة المتنبي الدالية، التي تحدَّث فيها عن واقع مصر حينذاك في رأيه، ومن أبيات القصيدة التي كتبتها:
غدت فلسطين أشلاء ممزَّقة
وحلّ في أهلها فتكٌ وتشريد
والقدس غيَّر محتلٌّ هُويتها
وانتابها من يد الأوباش تهويد
لا يملك كاتب هذه السطور إلا أن يقول - وهو يشاهد الوضع القائم: كلنا مشترك في المسؤولية في ارتكاب الصهاينة جرائمهم، ولا يسع الكاتب إلا أن يختم حديثه بقوله: {إِنَّا لِلّه وَإِنَّا إِلَيْه رَاجِعونَ}.