إن الحديث عن التوطين دائماً يؤخذ على أنه حديث عن العمالة الوطنية وسبل توطينها وإحلالها محل العمالة الأجنبية. إلا أن هناك نوعاً آخر أكثر أهمية من التوطين ظهرت أهميته خلال الآونة الأخيرة في ظل الدعم الحكومي الهائل للسلع والمواد الغذائية.. بل إن التضخم الكبير الذي بدأ يهز ليس المملكة وحدها ولكن العالم بأسره أرجع غالبية الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية للتفكير من جديد في الدعم وتقديم الإعانات المباشرة متناسية تماماً الأفكار التي ابتدعتها لإلغاء الإعانات والدعوم الحكومية سعياً وراء خلق اقتصادات حرة في ظل انتساب الجميع لمنظمة التجارة العالمية. ما يهم أن الاقتصاد الأمريكي بركوده العظيم أجبر الرئيس جورج بوش الآن على أن يدير أكبر عملية دعم فورية وعاجلة لأكبر اقتصاد في العالم بخطة تقدر بحوالي 152 مليار دولار.. تقوم مفصلات هذه الخطة على تقديم دعم مباشر وسريع للمواطنين لحمايتهم ليس من نقص أو تضخم أسعار الغذاء ولكن لحمايتهم من العجز في سداد مديونيات السكن. أي أن الحكومة الأمريكية أصبحت تقدم دعماً مباشراً لخدمة حياتية رئيسة للمواطن.
مسارات مكافحة التضخم.. والدعم الحكومي للسلع الغذائية
بالنسبة للمملكة، فإن الحال يبدو معاكساً، حيث إن المشكلة تضخم وليس ركود، هذا التضخم بملامسته لمستوى ال7% أصبح يؤثر على المقدرة الشرائية للمواطنين، الأمر الذي استدعى التدخل الحكومي بتقديم دعم مباشر للسلع والمواد الغذائية التي يحتاجها كل فرد، وهذا الدعم ليس جديداً، ولكنه إضافي وتعزيزي على الدعم الحالي الموجود، والذي يمكن القول بأنه يفوق الكثير من الدول المحيطة.
وبالفعل خلال الفترة الأخيرة صدرت العديد من القرارات السامية بتقديم دعم إضافي سواء للأرز وحليب الأطفال، تلاها حزمة قرارات صدرت جملة واحدة، تتحمل الدولة بمقتضاها 50% من رسوم الموانئ لمدة ثلاث سنوات، ثم 50% من رسوم الجوازات ورخص السير ونقل الملكية وتجديد إقامات العمالة المنزلية، هذا فضلاً عن القرارات الخاصة بتقديم دعم نقدي بصور مختلفة. وقبلها كان هناك الكثير من الدعوم المقررة سواء للدقيق والذي ربما يصل إلى 60% فضلاً عن دعم الأعلاف، للشعير والذرة الصفراء وغيرها.
كل هذه الدعوم والإعانات مقدمة مباشرة للمستهلك الذي لا وصف له إلا أنه مواطن.. وذلك عزلاً عن الدعوم أو الإعانات الأخرى المقدمة للمنتجين أو المصدرين المحليين، فهناك على سبيل المثال الدعم الحكومي لتسويق التمور، ذلك الدعم الذي يستهدف زيادة ورفع مقدرة المنتج أو المصدر المحلي على تسويق التمور.
إن الحديث هنا عن دعم المواطن.. كيف يوطن هذا الدعم؟ أين يذهب؟ ومن يستفيد منه حقيقة؟ أو كيف يوزع؟ وهل يحصل المواطن على النصيب الأكبر منه؟ أهم من ذلك، كيف يوزع هذا الدعم بين المنتج والمستهلك؟ لقد ناقشت دراسات أكاديمية عديدة سابقة قضية توزيع مكاسب الدعم أو الإعانة بين المنتج والمستهلك، وهي ليست قضية خاصة بالاقتصاد الوطني، ولكنها قضية عامة ترتبط مباشرة برفاهية المستهلك ورفاهية المنتج اللذين يتنافسان للحصول على أكبر قدر من المنفعة من جراء تقديم الدعم الحكومي لسلعة أو خدمة معينة.
الدقيق أبرز السلع المدعومة
الدعم الحكومي عادة ومهما كان شكله يقدم أو يذهب للمنتج الذي في غالبية الأحيان يكون هو من يمتلك القدرة على توزيعه ما بينه وبين المستهلك.. بل إن المنتج قد يكون هو المحدد الرئيس لمقدار منفعة المستهلك من هذا الدعم، حتى وإن كان هذا الدعم مقدم أساساً لخدمة منفعة المستهلك.. فعلى سبيل المثال نسبة الدعم الكبيرة التي تقدم للدقيق، تقدم للمنتج وتقوم الآلية الحكومية على افتراض إيصالها للمستهلك من خلال المنتج، إلا أن بعض المنتجين قد لا يمتلكون الرشد الكافي، ومن ثم قد يقومون باستغلال الحصص التي يحصلون عليها من هذه السلعة الهامة في استخدامات أخرى غير تلك التي دعم الدقيق من أجلها، بل إن بعضهم قد يلجأ إلى طرق يحقق من خلالها مكاسب كبيرة من خلال توجيه جزء من هذه الحصص إلى استخدامات أكثر ربحية، سواء بالتوسع في الاستخدام الصناعي (الموجه للسوق المحلي أو للتصدير) أو استخدامات بديلة (كعلف حيواني مثلاً) أو الاحتكار والتخزين (أملاً في خلق عجز محلي). كافة هذه التصرفات غير الحميدة تقود إلى تأثيرين سلبيين:
1 - شح وندرة السلعة بالسوق، ومن ثم خلق عجز ظاهري، وبالتالي مزيد من ارتفاع أسعارها.
2 - استخدام الدعم الحكومي في غير الاستخدام المخصص له، بما يشكل هدراً لموارد اقتصادية، بشكل يؤثر على كفاءة تخصيصها.
كيف يمكن وضع المستهلك على رأس قائمة المستفيدين من الدعم؟
إن الدعم في مثل هذه الحالات لا يمتلك القدرة على ضبط أو إيقاف التحركات العمودية للأسعار، ومن ثم يفتقد إلى المقدرة على كبح جماح التضخم، بل إنه يضيف أعباء على الموازنة العامة بلا مبرر اقتصادي.. فالدعم هنا لا يدعم المستهلك المستهدف، ولكنه من المحتمل أن يدعم أطرافاً أخرى (بعضها أو جميعها)، أهمها: المنتج المحلي (الذي يحقق أرباحاً إضافية اعتماداً على المتاجرة في سلع مدعومة)، أو المصنع المحلي (الذي يحصل على مدخلات وخامات مدعومة تمكنه من رفع قدرته التنافسية في السوق المحلي أو الخارجي). أو المستورد الأجنبي (الذي يتمكن من استيراد منتجات وطنية بأسعار أقل)، أو حتى المستهلك الأجنبي (الذي يتمكن من الحصول على سلع ذات جودة مرتفعة بأسعار متدنية نسبياً).
وعليه فإن تقديم الدعم لا يحل المشكلة ولكنه يضع أساس حلها، واكتمال هذا الحل يتطلب تحديد سبل وضمانات إيصال هذا الدعم إلى المستهلكين. بل إن بعض الدول بدأت تخوض في البحث عن آليات تمتلك الذكاء في تحديد وتقسيم شرائح المستهلكين حسب درجة استحقاقهم لهذا الدعم. إن الولايات المتحدة عند الضرورة بدأت تنتهج فلسفة بعيدة عن النظام الرأسمالي الذي تتبناه، حيث تخلت عن آليات السوق الحر، متدخلة بعنف في السوق لعلاج مشكلة تمس مواطنيها.. إن هذه التجربة لتدلل على أهمية ليس فقط تقديم الدعم، ولكن للبحث عن مساراته إلى منفعة المستهلكين. بل إن الزيادات التي طرأت على بعض السلع الغذائية الرئيسة في ظل معدلات الدعم الكبيرة والمتزايدة (سواء المدعومة قديماً أو المعانة حديثاً) ليتطلب التفكير في كيفية عزل وتوطين تأثيرات الدعم وضمان حصول المستهلكين على القدر الأكبر منها؟
د. حسن الشقطي - محلل اقتصادي
hassan14369@hotmail.com