أشعر بفخر واعتداد عندما أقرأ بحثاً شرعياً متفتحاً ومتوائماً مع متطلَّبات الواقع، ومؤشرات المستقبل، لواحد من علمائنا السعوديين. فنحن أمام التحديات التي نواجهها من جهة، ومن جهة أخرى انتشار الرأي (المتشدد)، وسيطرته على أذهان بعض العلماء وكثير من الشباب، في أمس الحاجة إلى الفقهاء المتفتحين، الذين لا تعجز رؤيتهم إلى الحاضر، ولا يقصر استشرافهم للمستقبل، عن استخراج أحكام تتواءم مع متطلّبات العصر، ومتغيّرات ما استجد من ظروف، بالشكل الذي يُحقق المقولة التي أثبتها التاريخ مراراً، وما يزال يثبتها، وسيثبتها إلى أن تقوم الساعة، ومؤدّاها: أنّ دين الإسلام (صالح لكل زمان ومكان).
فقد أهدى إليّ أحد الإخوة الأفاضل بحثاً عميقاً وعلمياً ومركّزاً ومؤصّلاً لفضيلة الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة، يبحث فيه مسألة (توسعة المسعى) في المسجد الحرام والتي يجري تنفيذها على قدم وساق الآن. وهي قضية كانت وما تزال محل حوار ونقاش بين الفقهاء. البحث من حيث التأصيل والسياق والربط بين الأدلة والنتيجة في غاية القوة والتماسك في تقديري. ويدل - بالمناسبة - على أنّ البحث العلمي في المملكة مازال فاعلاً، ويقومُ به علماءٌ أفذاذ لا يخشون في الحق لومة لائم، كما أنه يُشعرنا بالطمأنينة إلى أنّ هذه البلاد مازال فيها من يقرأ، ويبحث، وينقب، ويمحّص، ويقارن، ويوازن، ويتعب، قبل أن يصل إلى النتيجة، ولا يزايد بالمنع أو القبول لمجرد المزايدة و(التصعيد) دون أن يدعم رأيه ببحث علمي يُبرر ما يقول.
أهم ما جاء في هذا البحث أنّ الدراسات تؤكد أنّ تعداد الحجيج في تزايد مستمر، وأنّ أعدادهم قد تصل إلى ما يقرب من عشرة ملايين في المستقبل المنظور؛ الأمر الذي يُحتم على المسؤولين إيجاد حلول شرعية لتستوعب المشاعر هذه الأعداد المتزايدة من الحجيج سنة بعد أخرى. وقد استعرض البحث تاريخ المسعى، وشرائط صحة السعي على المذاهب الأربعة، وأقوال الفقهاء في عرض المسعى وهو الجانب الأساس الذي تشمله التوسعة. وانتهى هذا البحث المؤصل إلى أنّه لا مانع من توسعة المسعى من الناحية الشرقية للمسجد الحرام، ليس من قبيل الترخيص فحسب، بل إنّ هذا هو الأصل؛ أو كما يعبّر عنه الفقهاء (عزيمة) لا (رخصة)؛ وبناءً على ذلك فإنّ التوسعة المفترضة، والمتوقعة، لا تُعَد - البتة - خروجاً عن حدود المسعى المقررة شرعاً لهذه الشعيرة؛ كما جاء بالنص في البحث.
الأمر الآخر الذي يجب أن يضعه علماؤنا نصب أعينهم دائماً أنّ مسؤوليتنا تجاه الحرمين الشريفين خاصة تحتم علينا أن نكون روّاد المواكبة، وقادة مواجهة التحديات التي يفرضها ضيق المكان ومحدودية الزمان بعقلية توازن بين النصوص والمقاصد، آخذة التغيرات المعاصرة في عين الاعتبار؛ فلا تأسر نفسها في المعنى المباشر للنص، ولا تتجاوز النص (الثابت) وتنسفه نسفاً كلياً بذريعة (العبرة بالمقاصد). وهنا لا أجد لمثل هذه الحالة وصفاً إلا الشعار المتداول مؤخراً وهو (الوسطية). تكريس وترسيخ (الوسطية) كفيلٌ بمحاصرة الفكر المتشدد، وعزله عن توجيه بوصلتنا في الداخل، وفي هذا الزمان الذي غيّرت المكتشفات الحديثة فيه - وأهمها التواصل والمواصلات - كثيراً من نمط حياتنا عن ذي قبل. ومرة أخرى: لسنا وحدنا المسلمين على هذا الكوكب.