في الوقت الذي نرحب فيه بضيوفنا أصحاب المعالي وزراء التربية العرب، ونسعد باجتماعهم عندنا في مؤتمرهم السادس بالرياض خلال يومي 23 و24- 2-1429هـ فإننا كمواطنين وأولياء أمور نستثمر هذه الفرصة لنشد على أيديهم ونتمنى لملتقاهم كل التوفيق وندعوهم جميعاً إلى إجراء تطوير حقيقي وشامل للتعليم: العالي والفني والعام في الوطن العربي، إيماناً منا بأن مؤسسات التعليم هي مصانع الإنسان، وأن التنمية البشرية إنما تمثل خياراً استراتيجياً ومحوراً أساسياً للتنمية الشاملة، فلا تنمية حقيقية بدون تعليم متمكن ومتميز، وأن الاستثمار في الإنسان من أفضل مجالات الاستثمار على الإطلاق، لأنه استثمار في العقل البشري، والأمم لم تعد - وكما قيل - تقاس الآن قوتها بعدد سكانها أو جيوشها، بل بما لديها من ثروات اقتصادية هائلة واقتصاد عملاق تجمعه وتديره عقول مفكّرة ومبدعة وقادة على أن تصنع الفرق، وقد رأينا - نتيجة لذلك - تسابق المرشحين للرئاسة بالدول المتقدمة التي تكون نسبة العلماء والمهندسين فيها عالية جداً أمثال الرؤساء: الأمريكي بيل كلينتون والألماني هيلموت كول والبريطاني توني بلير والياباني ميجي وغيرهم كثير رفعوا شعار التعليم من أجل الفوز بالانتخابات الرئاسية يقيناً منهم بأن التطور وولوج عالم المستقبل إنما يتم من خلال بوابة التعليم، وأن في جودة مخرجات التعليم بلسماً لحل مشاكل مجتمعاتهم، وبما أن التعليم لا يمثل خدمة اجتماعية فقط بل ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد تنموية ومهمات اجتماعية واقتصادية وثقافية ومحور مهم ومؤثر بدرجة كبيرة في مجالات الفكر والسياسة والصحة والأمن وهو جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الوطني ومستقبل الأمة العربية كلها، ولأن مؤسسات التعليم في عالمنا العربي مؤتمنة على فلذات الأكباد وقيادات المستقبل فمن حق كل مواطن عربي، بل ومن حق المجتمع على مسؤولي التعليم أن يتطلع بشغف بالغ لنتائج مثل هذه الاجتماعات الكبيرة والمتواصلة التي نأمل في هذه المرحلة الحرجة والوطن العربي على مفترق طرق أن تكون بمستوى الطموح والتطلعات، وأن تتحول توصياتها لبرامج ومشاريع عمل فاعلة ومؤثرة على مخرجات التعليم في الوطن العربي.
ومع حقيقة أن التعليم يمثل أزمة عالمية لكل الدول بما فيها الدول الصناعية الكبرى كالولايات المتحدة وأوروبا واليابان بحكم أن مادته ومحوره وجوهره هو الإنسان، ومع الاعتراف بما تحقق من إيجابيات ومنجزات كمية كثيرة على أرض الواقع بحمد الله في البلدان العربية (وكما أشار إليها تقارير البنك الدولي الأخير) من نشر للتعليم والتوسع فيه، وارتفاع نسب الالتحاق بالمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وتكافؤ للفرص بين الجنسين، وخفض متواصل لمعدل الأمية بين الذكور والإناث، يقابله ارتفاع معدلات الإنفاق على التعليم في بعض البلدان العربية ليصل لحوالي ما نسبته 5% من الناتج القومي أو قرابة 20% من الإنفاق الحكومي وغير ذلك من المنجزات، إلا أن التقارير والمؤشرات تعكس جملة من العقبات والتحديات التي ما زال التعليم في وطنا العربي يعاني منها، فتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م على سبيل المثال، ونتائج اختبار الرياضيات والعلوم للصف الثامن (TIMSS) السابق، وكذا برنامج الاختبار الدولي للطلاب في سنة 15 (PISA) كما أن الاستطلاع حول أفضل الجامعات وتقرير البنك الدول الأخير عن إصلاح التعليم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كلها تؤكد وجود مظاهر لعقبات كثيرة تعاني منها بعض الأنظمة التربوية ومؤسسات التعليم في الوطن العربي ولا يتسع المجال هنا للحديث عنها، إلا أن من المهم التذكير بما تشترك بمواجهته كل النظم التعليمية في البلدان العربية من تحديات خطيرة يجب الإعداد لها جيداً لعل من أهمها الانفجار السكاني والعولمة والثورة المعلوماتية والانفتاح الاقتصادي والتكتلات الاقتصادية الكبرى وقرية المعرفة الكونية ومتطلبات اقتصاد المعرفة والتطور التكنولوجي وثورة الاتصال والتحولات والتطورات السريعة والمتلاحقة التي غطت مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية والتقنية ومشكلات التلوث البيئي وغيرها، تلك التحديات المزمنة لا يمكن في الواقع التصدي لها بأساليب ومعالجات تقليدية، ويتعذر على معظم نماذج التعليم التي تقوم على سيطرة المعلم والكتاب المدرسي وهيمنة أساليب التقويم التقليدية مواجهتها والتصدي لها.
إننا نذكر وزراءنا ومربينا الأكارم بأن التعليم الحاضن لأجيال المستقبل هو ميدان السباق المحموم على الصدارة وحلبة الصراع لاحتلال مواقع الريادة العالمية، لأنه عامل حاسم للتنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والصحي والأمني، ولذا فإن مجتمع اليوم يؤكد على أن إصلاح التعليم الشامل هو المدخل الرئيس لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، وأن مجتمع العلم والمعرفة والتقنية لا يرضى بمقاعد المتفرجين بينما الآخرون وسط حلبة السباق يتنافسون، ولنتفق إذن على أنه لابد من استراتيجية وخطة عمل وحركة دؤوب لا تهدأ نحو المستقبل بتبني منظومة للإصلاح التربوي الشامل تحوي تطوير وإصلاح مكونات العملية التعليمية كلها بشكل شامل لا جزئي، ونعقد العزم على العمل على تحويل مستقبل التعليم العربي من شعارات إلى برامج عمل، ومن أشكال إلى محتويات ومضامين، ولتكن وتيرة التغيير تفوق سرعتها ما تقوم به الأنظمة التربوية الأخرى، لتتحول بلداننا بمشيئة الله كنتيجة لهذه الجهود الخيرة من مجتمعات مستوردة لكثير من احتياجاتها ومستهلكة، إلى شعوب عاملة، منتجة، ومصدرة لكل دول العالم.