قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33)سورة فصلت، في هذه الآية ثمار يانعة وقطوف دانية يحتاج إلى معرفتها كل مسلم وطالب علم وداعية.
أولاً: الاستشعار (وهذا مطلب شرعي) بأن هذا كلام رب البشر الذي فضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه. فإذا تحقق هذا الشعور عند الداعية علم خطر الدعوة إلى الله بغير علم، وإن كان من المؤهلين لذلك علم خطر ترك الدعوة إلى الله. والله تعالى يقول: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(187) سورة آل عمران .
ثانياً: لا يمكن لأحد أن يدعو إلى شيء وهو لا يعرفه سواء في أمور الصلاح أو في أمور الفساد، إذ لو فعل ذلك لكان بمنزلة هي تحت منزلة أصحاب العقول السليمة.
ثالثاً: شرف الداعي يعظم بشرف المدعو إليه والعكس بالعكس. ولذلك في هذه الآية جعل الله الداعي إليه لا أحد أحسن منه وهي أعلى المراتب التي يصطفي الله تعالى لها من يشاء من عباده بدءاً بالمرسلين ثم أصحابهم ثم من سار على نهجهم.
رابعاً: ذكر القول في الآية لا يعني ألا دعوة إلى الله إلا بالقول فقط، بل هناك دعوة بالفعل بالقدوة الحسنة، دعوة بالقلب، دعوة بالجوارح ودعوة بالسنان، ولكن ذكر الله القول هنا تغليباً لجانب الدعوة باللسان لأنه الأكثر استعمالاً في الدعوة إلى الله.
خامساً: لابد أن يكون الداعي عاملاً متحلياً بما يدعو إليه غير مخالف له، وهذا يؤخذ من قوله: (وعمل صالحا) - وهذا هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد قال شعيب عليه السلام -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (88)سورة هود.
سادساً: من المعلوم أن شرطي قبول العمل هما الإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ففي قوله تعالى: (دعا إلى الله) هذا هو الإخلاص، وقوله: (وعمل صالحا) هذا هو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: في قوله تعالى: (وقال إنني من المسلمين) دليل على شناعة البدع والنهي عنها وعن الحزبيات والانتماء إليها والانضواء تحت رايتها مهما ادعت من الإصلاح وحب الخير للناس، وأن المسلم يجب عليه أن ينتسب للمسلمين ومنهجهم الحق الذي بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (.. من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي..) وأن هذه الجماعات غير جماعة المسلمين ليست من دين الإسلام في شيء، وأن الدعوة يشترك فيها من المسلمين من تمكن بالإلمام بوسائل الدعوة. كل حسب حاله وما يليق بمقامه.
ثامناً: وفيها أيضا أن يدرك المسلم أنه من المسلمين فإن حباه الله بأن جعله ممن يدعون إليه فلا يتكبر على المسلمين ويرى أن له الفضل عليهم، بل إن الفضل لمن مكنه من نفسه حتى يزرع فيه خيرا، أو ينمي فيه خيرا.
تاسعاً: الوقوف عند ألفاظ القرآن الكريم يشعر بأن لها مدلولات عظيمة من حيث اختيار اللفظ من بين ألفاظ تدل على معنى واحد، وكذلك من حيث التقديم والتأخير ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن منها كلمة (حصحص الحق) فهي تفيد وتعني أنه قد تبين الحق ولكن كلمة (حصحص) تفيد معنى أدق من ذلك وهي أقصى درجات البيان والوضوح.
وفي هذه الآية جاءت كلمة (أحسن) وهذا يشعر بأن من دعا إلى الله وعمل صالحا وحسب نفسه من المسلمين دون تكبر عليهم ولا أنفة منهم وسبيله سبيلهم - بأنه أتى بأعلى درجات الإحسان - وأن المسلم قد يدعو إلى فعل معروف هو لا ينشط لفعله كقيام الليل، والصدقات، والنوافل وغيرها فلا يكون بتركها آثما ولكن لم يدخل فيمن عناهم الله تعالى بقوله ومن أحسن أي: لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله.. الآية. وإن كان محسنا في الدعوة مسيئاً بتقصيره بالعمل.
عاشراً: في هذه الآية أن الإسلام لابد فيه من النطق باللسان يؤخذ من قوله تعالى: (وقال إنني من المسلمين). فهذا انتساب شريف لابد من بيانه للناس، وينضم إلى ذلك الإقرار بالقلب والعمل بالجوارح والصبر على الأذى فيه، وهذا ما تضمنته سورة العصر بأن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بصفات أربع، الإيمان، العمل الصالح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي عليه، والصبر على الأذى فيه.
الحادي عشر: أسلوب القرآن الكريم في تقرير الأمر في النفوس يأتي أحيانا على هيئة سؤال ليثير في النفس مكامن الشوق ويشحذ الهمم إلى معرفة ما تخاطب به وهذا أقوى لتحصيل ذلك كله، ولذلك جاء في هذه الآية قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ }الآية.
ليأتي الجواب لا أحد أحسن حالا في الدنيا وحالا في الآخرة ممن اتصف بهذه الصفات.
الثاني عشر: جاء في الآية لفظ (دعا) ليشعر بذلك المسلم الداعي أن هناك دعوة ودعاء وألا سبيل إلى الدعوة إلا بدعاء الله أولاً أن ييسر له هذا السبيل وفيه معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}بمعنى لا قدرة لنا على عبادتك إلا بإعانتك لنا عليها، فنستعينك ونستهديك.
وفي الآية فوائد كثيرة غير ما ذكر.
* حائل Hail qq@gmail.com