الأحداث تتسارع، الصورة ضبابية، شاشة العرض متهالكة، والمشهد قارب على النهاية، بينما الجمهور رافعاً عينيه صوب شاشة الحياة، الجمهور لم تعد لديه رغبة في المتابعة أو حتى المشاهدة، فالإحباط هو التيمة الرئيسة الغالبة على سياق المشهد، لكن المتابعين المصرّين على المتابعة تكاد رقابهم تنخلع....
.... فلا تزال الأخبار تدور لاهثة فوق الشريط الأحمر الدامي أسفل القنوات الفضائية تحمل أرقاماً هائلة من القتلى والجرحى عبر تليفزيون الواقع.
أفلام وثائقية تعرضها الفضائيات عن الحرب على العراق محاولة الربط بينها وبين فيتنام، ولست أدري لماذا هذا الربط غير المجدي في المرحلة الراهنة، أعتقد أن الرابط الوحيد بينهما هو أن كلا الحربين مستنقع لأمريكا، خرجت من الأول بصعوبة بالغة، وعاجزة حتى الآن عن الخروج من الثاني.
الأفلام الوثائقة تعرض صوراً لقتلى جرَّاء الحرب، جاعلة في الوقت نفسه خلفية المشهد أحداثاً أخرى ربما تكون أشد سخونة وأكثر رعباً، والوقت غير مناسب لتوجيه الرؤية إليها، وعدسة الإعلام متجهة صوب العراق، لتربط بين نتائج الحرب هناك والانتخابات الأمريكية، وفشل الإدارة الحالية في خوض الحرب، وفشلها أيضاً في تقديم أي حقائق حول أسباب الحرب الأصلية، ولا حتى القدرة على تقديم قطعة واحدة من الأسلحة البيولوجية أو النووية التي قامت الحرب من أجلها لإيقاف خطر العراق النووي على العالم، وحتى الآن ومع كل يوم يثبت كذب هذا الادعاء، وعصابة الحرب في الكونجرس لا تزال تصوت بالدفع بمزيد من الدعم للحرب الأكذوبة.
فلسطين في الخلفية، تجزأت فلسطين، صراع بين فتح وحماس، وانتزاع صفة الشهيد لمحاولة إلصاقها بكل من يسقط قتيلاً من الطرفين. والإعلام العربي والعالمي لا يتحدث إلا عن غزة، والحصار الإسرائيلي لها وفتح المعابر بعيداً عن القضية الأصلية، اختفت أو توارت قليلاً مفردة (فلسطين) من الإعلام العالمي، وهذا بالطبع صادر عن عمد.
خلفية دامية متزامنة أيضاً مع كل ما يحدث؛ لبنان والصراعات الداخلية ومرور الوقت من دون وجود رئيس لدولة عريقة بحجم لبنان، التهديد بحرب تقضي على الأخضر واليابس، اغتيالات، تحذير من السفر إلى بيروت لعدم توافر الأمن الكافي هناك.
الأحداث لا تزال تتسارع وتتزامن في الوقت نفسه، رسوم مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم على صفحات الجرائد الدانماركية بدأتها جريدة (يولاندز بوستن)، وانتهت بسبع عشرة صحيفة نشرت رسوماً مسيئة أيضاً، ودعوات بإعادة المقاطعة للبضائع الدانماركية وتوزيع قائمة عبر الإنترنت أيضاً بكل المنتجات التي تجب مقاطعتها، ودعوات بسحب السفراء، ودعوات تنصيرية تسمي نفسها تبشيرية لإخفاء حقيقتها العارية على الفضائيات التابعة لهم تدعم هذه الرسوم، وأخرى رافضة، والنتيجة فشل ما يسمى بحوار الأديان، والتوجه نحو صدام الحضارات، والمحصلة أن هناك عدداً كبيراً جداً من الناس لا يعرف ما الأسباب أو الدوافع الحقيقة لنشر الرسوم في المرة الأولى كمرحلة جس نبض من مراحل الإساءة التي لا تواجه بالصورة اللائقة، ثم بعد ذلك عملوا بالمبدأ القائل: (إن تكرار الفعل يزيل الدهشة منه).
المهم أن الأحداث لا تزال تتسارع وتتزامن أيضاً بوتيرة جعلت الذين يتابعونها إما أن يصابوا بالانهيار العصبي بمختلف درجاته، أو الخوف والفزع الذي يصيب المتابعين ويأتيهم ليلاً في شكل كوابيس في النوم من مشاهد الذبح والترويع. المكسب يعود بالضرورة على الأطباء النفسيين الذين تزداد زبائنهم يوماً تلو آخر.
والأحداث لا تزال تتسارع، والجمهور لا يزال أيضاً عاجزاً عن ملاحقتها، رفع الجماهير رؤوسهم إلى أعلى حتى قاربت أن تنخلع من أجسادهم كما تصورها مقاطع الفيديو التي تسافر من بلد إلى آخر عبر الإنترنت ليرى العالم أجمع من خلال قناة إعلام لها لغتها الخاصة وبالطبع هي غير حكومية، وغير مستقلة، قناة الإعلام الإنترنتية لا تنتمي إلى شيء، هي غير محايدة، ولا منتمية، فالإنترنت يدخل من دون المرور على موظف جمارك، يفتش حقائبه، المقاطع تمر هاربة من مقص الرقيب المتربص بدعوى الحرص على مشاعر الجمهور الذي لم يوكله بالنيابة لكي يختار له ما يشاهد.
مهما حاولنا أن نسجل بعضاً من الأحداث المحيطة بنا فلن نتمكن من حصرها مهما بلغت الدقة هذه اللحظة، فلا يمكن تسجيل التاريخ الآن بصورة موضوعية، فما يتم تلفيقه من أكاذيب لا يمكن اكتشافه في الآن، يجعل هذا من عملية التسجيل الموضوعية أمراً شديد الصعوبة.
وهروباً؛ فقد اختار المبدعون عناوين للمتخيل المستحيل الحدوث بالتعبير الرومانسي عن حلم ليلة صيف لعدم إمكانية التحقيق، فكل كتابة مجادلة محاولة تغيير الواقع الآني تواجه بإحباطات اللامبالاة من القراء المحبطين الذين لم يعد يعنيهم إلا الأمور الخفيفة من كثرة ما يعانوه من أحداث متسارعة، فحين يتحول الإنسان من قيمة إلى رقم يعد بالآلاف وربما الملايين حال قتله، نشعر جميعاً بالتشيؤ غير المفيد بالنسبة للإنسانية، فحين يؤمن الإنسان بعدم جدواه في الحياة وترقيمه بعيداً عن منجزه الإنساني يتحول إلى مجرد وجود جامد من غير حضور فاعل ومؤثر، وفرق كبير بين الإنسان بروحه الدافقة بالحيوية، وبين الحجر الجامد، الأول لا يعد، ولا يحصى، بينما الأحجار من السهل تعدادها وتوقع إمكانية فعلها أيضاً، فتقف عند حدود العجز بالنسبة للإنسان صاحب الديمومة الإنسانية في الفكر وفي المنجز.
كتَّاب المقالات اليومية في الصحف العربية تحوّلت أقلامهم إلى بث الشكوى والاتجاه لمناجاة الطبيعة وذكر الأصدقاء القدماء، وربما الوقوف على الأطلال وبكاء الديار، وذكر المحبوبة أحياناً كالشاعر الجاهلي، ولم تعد أغلب المقالات التي من المفروض أن تسجل كرأي يعلق على حدث مهم، بل صارت قطعاً أدبية يغلب عليها الطابع الرومانسي في الكتابة بدلاً من الطابع الواقعي الخلاق، لا يمكن ملاحقة التعليق على الأخبار، فما يتم التعليق عليه هذه اللحظة تتغير بالضرورة نتائجه بعد لحظات قليلة ليحتاج إلى إعادة النظر في التعليق الأول، وهكذا.
ليلة واحدة خالية من الأحداث المتسارعة، ومن مشاهد الذبح والترويع على الفضائيات والإنترنت هي الحلم المتخيل والمستحيل الذي يحياه إنسان هذا الزمان في كل يوم، بل وفي كل دقيقة، هروباً من واقعه المؤلم الذي لا ينشد فيه الشباب مستقبلاً واضحاً، ولا يتوقع فيه خططاً مرسومة بدقة، فجميعنا تغلّب عليه إحساس الانهيار غير الانتقائي من كثرة الدموية الغالبة على المشهد الحياتي الآني، ففي لحظة قد تدمر كل الخطط التي مكثنا عشرات السنين نرسمها من دون تحقيق أبسطها.
كل هذا لا أعتبره يأساً ولا نوعاً من أنواع جلد الذات؛ بل هو مجرد حلم بالتغيير الإيجابي بعيداً أحياناً عن تشيؤ الإنسان أو ترقيمه أو حين يعيش في تمني أحلام مستحيلة!
aboelseba2@yahoo.com