حينما تلتقي بسلطان من سلاطين الحُكم، أو سلطان من سلاطين العِلم، فإنَّ فرائصك ترتعد، ونبضات قلبك تتسارع، ولو كان ذلك (السلطان) متواضعاً ليناً؛ لأن هيبته وإجلاله يفرضانِ على اتزانك الرعشة والاضطراب. كذلك حينما تعزم على الكتابة عن أحدهم، فإن اضطراب قلمك يُنفِّر الكلمات، ويشتت الأفكار، ويخلط الحابل بالنابل. |
لقد اضطرمت الأعماق، واضطربت الأفكار، بعد وفاة فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد - رحمه الله -، الذي غربت شمس حياته قبل غروب شمس يوم الثلاثاء الموافق 28-1- 1429هـ. فالحمد لله على قضائه وقدره. |
بين لوافح الاضطرام، وكوابح الاضطراب، سللت يراعتي لرثاء هذا (البحر) نثراً، بعدما انحسرت بحور الشعر، وجزر مد تعبيرها عن مد فضله، وقصر أمد تصويرها عن أمد فقده. |
وأرقت كي أَصِفُ الشعور بدقة |
فعجزت عنه وهدَّني الإرهاق |
ماذا أقول؟ مشاعري مكلومة |
والشعرُ بات حليفه الإخفاق |
بالأمس القريب ودَّع الأمة الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم، ولم يندمل جرح فقده، حتى ثعب الجرح لوعة وأسى على فقد الشيخ بكر أبو زيد - رحمهما الله وجبر مصاب الأمة فيهما -. |
فقدنا على مر الزمان فراقِدا |
فأصبح هذا الكون للنور فاقدا |
أنسنا زمانا بالأئمة بيننا |
وها نحن نبكي واحداً ثم واحدا |
إذا التأم جرح بعد تشييع عالم |
مضى آخر عنا؛ فسال معاودا |
ما أقسى الفقد الذي يجدد الحزن، ويبعث الأسى الدفين في طيات القلوب: |
أقسى المواجع جرح خطب كلما |
برئ استثار أساه خطب ناكي |
كالجمر تذكيه الرياح ولم يكن |
قبل الرياح وخفقها بالذاكي |
إن علماء الأمة الراسخين في العلم هم أعلامها الذين يثبتونها عند زعزعة الفتن، كما أن الأعلام الراسية قد خلقها الله - جل وعلا - لتثبت الأرض فلا تميد.. وهم مصابيحها الذين ينشرون ضياء العلم والمعرفة فتنكشف عنها غشاوة الجهل المدلهمة.. وإذا كانت المصائب جمة، فإن أجلها تدكدك الأعلام، وانطفاء المصابيح: |
لكل بلاء في الحياة طبيبه |
وليس لفقد المصلحين طبيب |
إذا مات أهل العلم والحق والهدى |
فقد تاه أقوام وضل شعوب |
بمن يهتدي الساري الذي سار في الدجى |
إذا كانت الأقمار فيه تغيب؟ |
رحل العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - عن هذه الدنيا، بعدما أقام عالماً مُعلِّما، وودعنا هذا الحبر بعد أن أودع علمه في أسفاره التي حبرها. ولئن طويت صفحة حياته، فلن تطوى صحائف حسناته - بإذن الله - التي ما زالت تسترفد من بحر علمه في تلك الأسفار. |
لقد خلَّف الشيخ - غفر الله له - إرثاً عظيماً، وألَّف كتباً علميةً كثيرةً، حيث أرشد طلاب العلم إلى التحلي ب(حلية طالب العلم)، وحذرهم من (التعالم)، وحرص على تهذيبهم في (تهذيب كتاب الجامع لأخلاق الراوي)، وقد دعا الناس إلى (حراسة الفضيلة)، وناقش مخالفيه في (الردود)، كما أنه بيَّن للأمة (فقه النوازل)، وكشف لها (المناهي اللفظية)، وعندما كثرت الفتن سعى - رحمه الله - إلى (درء الفتنة عن أهل السنة). ولقد كلت يراعتي من تعداد إرث الشيخ ومآثره: |
يا (بكرُ)، كم خلفت مكرمة |
قد كَلَّ من تعدادها العدُّ |
خلفت فينا ما يذكرنا |
بك، لو رحلت، فلم تزل تبدو |
رحل الشيخ - رفع الله درجته - عنا بجسمه، وبقي بيننا بعلمه، وهذا هو سبيلنا جميعاً. لقد غيَّب الموت الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، والصحابة والتابعين - رضي الله عنهم، والعلماء والصالحين - رحمهم الله -، فبقيت أخبارهم، ولم تندرس آثارهم: |
فاهنأ بعيشك، لم يمت عند الورى |
من قيل بعد وفاته: قد كانا |
يا أيها الشيخ الجليل، عزاؤنا |
أن الردى درب إلى أخرانا |
أحمد الله - تبارك وتقدس - على قضائه وقدره، ولا أقول إلا ما يرضيه {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وأعزي الأمة جمعاء في شيخنا بكر - أسكنه الله جنته: |
أعزي بكَ الإسلامَ والمسلمين يا |
إماماً طواه كالشموس غروبُ |
|