إن المتأمل في ثنايا الحوار الفكري العربي حديثه وقديمه ليدرك حدة النبرة الخطابية بين معظم شرائح المجتمعات العربية، وذلك مرده إلى عوامل عدة منها الثقافية والسيكولوجية الاجتماعية، التي أثرت وبشكل واضح في منهجية الخطاب العام، وذلك ناتج عن الجهل لمفهوم الاختلاف في الآراء المطروحة للمناقشة وأنها سنة فطرية أوجدها الله سبحانه في وجدان هذا المخلوق الضعيف ألا وهو الإنسان، ولأن من طبائع الأمور تمايز الأشياء بأضدادها، لذا قالوا: وبضدها تتميز الأشياء. |
فالاختلاف وصمة إيجابية في حد ذاته وذلك في إطار الوصول إلى الحقيقة ولأن تفكر بعقلين خير من أن تفكر بعقل واحد ولكن الجهالة بمفهوم الأمور على وجهها السليم أفسد مفهوم الاختلاف في بيئة الثقافة العربية ونقله إلى حيز الخلاف والمشاحنة وهذا يعد من المآخذ الواضحة للعقل العربي في طريقة التفكير، فحكماء العرب كانوا يعدون على الأصابع لأنهم استطاعوا فهم طبيعة السمة الاختلافية وتعاملوا مع أطرافها بشكل يتوازى مع مخزونهم المعرفي والقدرة العقلية من خلال تشخيص المختلف وتكييف المشكلة ثم تسويتها بما يقبله عقله وتقتنع به نفسه حتى وإن كانت التسوية مغايرة لحال مقصوده طالما أنها أشبعت كبريائه، ولقد لعبت أدوار هؤلاء الحكماء عنصراً مهماً في تجنيب مجتمعاتهم ويلات النزاعات والاقتتال عندما أبطلوا قول عمرو بن كثلوم: |
آلا لا يجهلن أحد علينا |
فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
وإذا كنا نردد مقولة أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فهذا باعتبار الحال والمقال والقائل والمستمع إذ إن الاختلاف مرده إلى الاجتهاد بالرأي في المسائل التي لا تحتمل التأويل ولا تتعدى حدود المسألة والقبول السلبي أو الإيجابي من حيث الرفض والإقناع ومتى ما أصبحت المجتمعات أكثر وعياً وإداركاً للمتغيرات الاجتماعية والبيئية المحيطة ضاقت حلقة الخلاف، وفي المقابل كلما نما واتسع الفارق بين أجيال المجتمعات في تفهم متغيرات الحياة والتعامل معها بحال تناغم مع تطورات المعطيات الاجتماعية نشب الخلاف وانقطعت حبائل العودة بل قد تتعداها إلى دائرة الإجرام. |
ولعله من المهم أن أعرج على مفهوم الخلاف والاختلاف من وجهة النظر الشخصية، فمن حيث اللغة قد لا نجد فرقاً بين الخلاف والاختلاف يقال خالفه الرأي واختلف معه في الرأي، ولكن كلمة اختلف تعني الحالة التي تغاير الآخر لاحتمال التأويل أما كلمة خالف فتقترن بعدم القبول للطرف الآخر بالتعصب والحدية حتى وإن كانت الحالة المختلف عليها لا تحتمل التأويل. |
فالاختلاف في الأصل حالة ناشئة عن رؤى متباينة بالكلية وقد تكون متفاوتة فيما بينها عطفاً على مبدأ النسبة والتناسب من حيث التقارب والتباعد ولا تصل إلى مرحلة التصادم والتنافر. أما الخلاف فهو الحالة التي تنشأ عن عدم قبول الطرف الآخر في مقالته وحاله، وذلك مرده إلى التعصب والجهالة مما يثري عنصر المصادرة للحق المشروع في التعبير وقهر الأشياء وقسرها بحسب ما يراه المخالف. إن عدم خروج الاختلاف المحتمل للتأويل عن دائرة أدب الحوار يجعله في إطار الاختلاف المحمود بل إنه ليثري ويعزز التراكم المعرفي والأدبي بشكل خاص في الموروث الثقافي في مجتمعاتنا العربية لذلك فإنه من الضروري التنبيه على أهمية التوعية الملحة بين فئات المجتمع على نشر أدب الحوار وتكريس الجهود التربوية في هذا الجانب على الفئات الطلابية وخصوصاً في مراحل التعليم العام، حتى تتنامى روح المسامحة ويسمو النضج المعرفي والفكري في الوصول إلى حقائق الأمور بدون قهر وسلطان. |
حسن بن محمد المعيوف |
|