يشدني الشوق أحياناً، بل كثيراً، للدخول على منتدى قريتي (رباع بني حسن) على صفحات الإنترنت، للاطلاع على قديمه وجديده، وتقودني الخواطر والخلجات لاجترار الماضي، مناظر تذكرني بشبابي وصولاتنا وجولاتنا خلف الغنم، رعاة حفاة من جبل إلى وادٍ، تفكير محدود وإن كان ينطلق في الطبيعة المفتوحة بلا حدود، ورؤى متقاربة، كل ما يهمنا هو العودة مساءً إلى الديار، لنجتمع حول (المله).. وهي موضع الحطب يشعل فيها للطبخ أو التدفئة، دخان أسود يرتفع ويلتصق بالسقف الخشبي فيتجمع به ما يُسمى (الوار)، ومع أذان والدي - رحمه الله - لصلاة الفجر، الذي يشق أستار الظلام، نقوم للصلاة وحمل جزء من قرص الشعير، وإذا كان براً هللنا بالفرح وكأنه معصوب بالعسل.
الثوب يستمر على الجسد إلى أن يتعطف والدي - رحمه الله - بشراء قماش يُسمى (دوت) لو وضعته في عصرنا الحاضر على حصان لأصابه بالحساسية المزمنة، نغسله أنا وأقراني في النجل (مجرى الماء) ونبقى عراة حتى يجف، فسبحان مغير الأحوال الذي لا يتغير، والحديث ذو شجون، فهذا الواقع مر عليه الآن ما يقارب نصف القرن، لم تكن هذه حالي وأبناء قريتي فقط، بكل كانت حال الكثيرين سواء في الجنوب أو نجد أو الشمال بل وكل أنحاء المملكة، لكن العليم الخبير قيَّض لنا رجالاً مخلصين، صدقوا الله ورسوله ففتح الله على أيديهم أبواب النعمة والخير الوفير، بدأها أبو تركي - طيب الله ثراه -، وتبعه أبناؤه البررة، قلبوا موازين الاقتصاد، واستخرجوا الثروات من باطن الأرض التي باركها الله وخصها بأن يستقر على أرضها بيته العتيق، ومسجد خاتم أنبيائه ورسله، وبنوا بها مجد البلاد وسدوا بها حاجة العباد، فكانت الدولة السعودية الفتية، التي تغيَّر فيها شظف العيش إلى رغده، وانتشر العلم ليمحو بنوره ظلمة الجهالة، يملأ البصر وينير الجوانح والبصائر، أصبح الكل يعي ما يقول، وقد كان فتى الفتيان في صبانا بالكاد يقرأ القرآن، ويخط ما يعجز عن قراءته إنسان، في الوثائق وعلى جذوع الأشجار وصفحات الأحجار ثابت.
كنا نذهب لنقرأ ونتعلم على يد شيخ عالم، نقرأ على يديه القرآن مكتوباً على ألواح، وأحياناً يشرد مني الفكر خلف غنمي، فيغضب الشيخ مني ويكون جزائي أنا وكل من هو مثلي حرماني من قرصي وتمرتي، فشتان ما بين الأمس واليوم.
سبحانك اللهم هيأت لنا من أمرنا رشدا، ومن همومنا فرجا ومخرجا، فكانت دولتنا - رعاها الله - بعد الله خير معين، تعلمنا وأكملنا الدراسة خارج البلاد على نفقتها، وتحول الحفاة العراة بنعمة من الله علماء ومتعلمين، أطباء ومهندسين، هداة ومرشدين.
هذا الخاطر أو هذه الخواطر مرت بي وأنا أطالع منتدى قريتي التي تشبعت بحبها وحب أهلها، قريتي التي اشتهرت بالعرضة الجنوبية حتى أصبح الكثير من أبناء زهران والجنوب يسمونها رباع الزير من شدة حبهم للعرضة وتنظيمهم لها وتعليمها لأبنائهم منذ الصغر، وكثرة شعرائها المشاهير في الجنوب كشاعر الحرب إبان اجتياح الأتراك لبعض مناطق الجنوب محمد بن ثامرة وابن خماش والشيخ جار الله وأخيه عبد الله - رحمهم الله - وأخيراً وليس آخِراً، أشكر الله على نعمه التي منَّ بها علينا في ظل الحكم الرشيد، ولا أنسى أن أنوّه أنني سوف أكمل هذا المقال وهذه الخواطر في مقال آخر يختص بمدينتي التي عشت ما يزيد على أربعة عقود وما زلت فيها، فقد أصبحت هي ديرتي، إنها الرياض، سأكتب عنها وعن باني حضارتها ونهضتها صاحب السمو الملكي الأمير الحبيب سلمان بن عبدالعزيز، فقد عاصرت هذه المدينة منذ بيوت الطين ومجرى البطحاء والمزارع المتناثرة، حتى جاء سلمان فغيَّر وجهها إلى مدينة تحصد الجوائز العالمية وتنافس أمهات المدن.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أشكر جريدة (الجزيرة) التي منحتني الفرصة لنشر كل ما يُوحي به القلم في الصالح العام والمقارنة بين الأمس واليوم ولسان حالي يقول:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي ولو ضنوا علي كرام
اللهم أدم علينا نعمة الإسلام ونعمة الأمن والأمان واهد من ضل إلى سواء السبيل، وأدام على حكامنا نعمة الصحة بطول العمر وتمام السعادة والعافية والهناء وجعل ختام حياتهم وحياتنا جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.. آمين.