في كل يوم لنا ميت نشيعه، وشتان بين تشييع جثمان العلماء وتشييع جثمان غيرهم، فموت العلماء نقص للأرض وموت للأحياء وطمس لمعالم النور لتفشي ظلمات الجهل، يقول الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال بعض السلف: أي بموت العلماء.
لقد فقدت الأمة قبل أيام عالماً ربانياً أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات ساهمت في إيضاح معالم وأصول الفكر الإسلامي الناضج، وأرشدت الدعاة وطلاب العلم المبتدئين والمتمرسين إلى قضايا خطيرة كادت تعصف بكيان المجتمع الإسلامي لتنخره وتتركه صريعاً في عصر وزمن غزتنا فيه الأفكار المسمومة والشبهات المغرضة لتدير الإسلام وإبادة أهله.
فقدت الأمة رجلاً ليس ككل الرجال ومؤلفاً ليس ككل المؤلفين، أسهم بقلمه وكتبه في الرد على المبتدعة والمتمسكين بالشبهات ضد السنة، وعلى أنصاف المثقفين والمنخدعين بالغرب الذين أصبحوا في حيرة من أمره حى ضاقوا به ذرعاً، أما من كان منهم طالباً للحق فكان الشيخ له بمثابة من أنقذهم من الغرق وردهم إلى الصواب، يقول الله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، ويقول سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}.
إنه العالم الرباني الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، ليعرف القارئ نقطة من بحر عن حياة الشيخ لأن المقال ليس الهدف منه سرد السيرة الذاتية ولا الترجمة الشخصية عن هذا الإمام، فالمقال لا يتسع لذلك.
فلتبلك أمة الإسلام على عالم كان مجمعاً للبحوث، فإن أردت من يروي غليلك في العقيدة وجدت للشيخ سهماً نافذاً يضرب به هام البدع ليبقى للعقيدة مدافعاً ومثبتاً لها بين طلابه وقارئيه، فرسالته الموسومة ب(براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة) شاهد له بذلك، وإن أردت حارساً للفضيلة وناشراً للأخلاق وجدت الشيخ يضرب بسهمه الحارق في وجه أدعياء التحرر من ثوب الفضيلة وسيفاً مسلولاً على مدعي حرية المرأة وأنى لهم التناوش بعد كتاب (حراسة الفضيلة) للشيخ بكر، واقرأ معي إن شئت هذه الجمل للشيخ في كتابه حراسة الفضيلة ص 134 إذ يقول رحمه الله: فالحجاب باعث عظيم على تنمية الغيرة على المحارم أن تنتهك، أو ينال منها، وباعث على توارث هذا الخلق الرفيع في الأسر والذراري: غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين على محارم المؤمنين من أن تنال الحرمات، أو تخدش بما يجرح كرامتها وعفتها وطهارتها ولو بنظرة أجنبي إليها).
هذه الكلمات ينبغي أن تكتب بمداد من ذهب، ففيها صيانة للمجتمعات من الانحراف وحفظ للمحارم عن الشهوات، فلله دره من مرب أمين، فعندما أراد أن يؤلف هذا الكتاب استخلص مادته من نحو مائتي كتاب ورسالة ومقالة عن المرأة ليثبت به قلوب المؤمنين والمؤمنات ويرد فيه التائهين والتائهات إلى رشدهم ويلقنهم درساً في أمانة العلم وينقلهم إلى مصدر سعادتهم وعزتهم تحت مظلة الإسلام.
يذكر أن أحد الكتاب والمؤلفين الكبار في العالم الإسلامي والذي أمضى حياته وقلمه في سبيل نشر الحرية المزعومة الزائفة أنه عندما اقترب أجله ندم وقال (لو ألفت بعض الوريقات أو سطرت كلمات عن الإسلام لخلدت اسمى وكانت لي ذكراً حسناً إلى يوم القيامة).
فماذا نقول وبأي شيء نعبر عن عالم أمضى حياته وأجهد قلمه لخدمة الإسلام والمسلمين، ألا يستحق منَّا أن نبحث عن سيرته ونفتش عن مكنون حياته ليكون نبراساً للأجيال وقدوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم والفضلاء في هذه الأمة الولود، ولن تموت أمة يكون فيها أمثال هذا العالم وسنرى في واقعنا نموذجاً بل نماذج أمثال الشيخ بإذن الله لتستمر رسالة العلماء إلى قيام الساعة.
اللهم اغفر له وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العاملين وافسح له في قبره ونور له فيه.