جزى الله إمامَي الحرمين الشريفين عن المسلمين خير الجزاء حين خصصا خطبتي الجمعة الماضية للحديث عن ارتفاع الأسعار، والتحذير من الجشع واستغلال حاجات الناس لمضاعفة الأرباح بطرق مخالفة لتعاليم الدين الحنيف؛ فقد بلغ الغلاء مبلغاً خطيراً أوشك أن يُحدث مشكلات اجتماعية لا يعلم بمداها إلا الله..
سبحانه وتعالى، فالجوع والفاقة يقودان المجتمع إلى الهاوية، ويساعدان على ظهور المشكلات الاجتماعية، والقضايا الأمنية والأخلاقية. وما لم تتضافر الجهود لوقف (سرطان) الغلاء، ومن ثم معالجته والرجوع به إلى مستويات العام 2006 فإن النتائج ستكون وخيمة ولا شك، ولعل المراقبين يجدون في بعض المشكلات الاجتماعية المستحدثة دليلاً قاطعاً على انعكاسات التضخم السلبية على المواطنين.
الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، إمام وخطيب المسجد الحرام، تناول قضية غلاء الأسعار في خطبته، وأشار إلى أن (من أظهر صور الأثرة الطاغية والجشع البغيض السعي إلى تضخيم الأرصدة وتكثير الأموال بوسائل نهى الشارع عنها لشدة ضررها وعظم خطرها المنذر بتصدع بناء المجتمع وغرس الضغائن بين المسلمين).
وفي المدينة المنورة حذر الشيخ علي الحذيفي، إمام وخطيب المسجد النبوي، من إدخال التاجر المشقة على المسلمين على أساس أن ذلك يعرضه لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي قال فيها (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم اللهم فاشقق عليه)، وقال: إن (رفع أسعار السلع والأرزاق من غير موجب ولا حاجة مشقة على المسلمين واستغلال لضروراتهم، قال المحققون من أهل العلم يجوز للإمام أن يُحدد الأسعار إذا اقتضت المصلحة العامة هذا التحديد).
الشيخ الحذيفي يُجَوّز للإمام، على قول المحققين من أهل العلم، تحديد الأسعار للمصلحة العامة، وهو يضع حلاً مثالياً للتعامل مع جشع التجار الذين لم يكتفوا بمضاعفة الأسعار بل قرر بعضهم الاستئثار بدعم الدولة للسلع الأساسية، وتجييرها لحساباتهم الخاصة.
خطبتا إمامَي الحرمين الشريفين تدفع بأزمة الأسعار نحو المسار الشرعي الذي لم يخض فيه المفتون بعد. ألا تستحق أزمة الغلاء الحالية فتوى شرعية تحرم على التجار استغلال الوضع الحالي لرفع الأسعار دون مبرر؟ لماذا لا تُسمى الأمور بأسمائها، وتَصدر الفتوى الشرعية صريحة في حق التجار الذين تسببوا في موجة الغلاء الحالية؟ هناك فارق كبير بين تبيان الحق وإظهاره للمسلمين، وبين الفتوى الشرعية التي تحرم رفع أسعار المواد الغذائية المخزنة وبيعها بأسعار السوق الحالية. هناك جانب شرعي آخر يتعلق بالاحتكار؛ فتخزين المواد الغذائية لعام مضى، والاستيلاء على المعروض التجاري بقصد تخزينه بناء على معلومات دقيقة عن مستقبل الأسعار هو جزء لا يتجزأ من عمليات الاحتكار التي نهى الشارع الكريم عنها. كما أن نظام الوكالات التجارية هو نوع من أنواع الاحتكار الذي يُعطي صاحبه الحق في تحديد سعر التوزيع المستهدف، ومن ثم أسعار التجزئة التي تفرض على منافذ التوزيع فرضاً كما هو الحال في بعض المواد الأساسية.
أورد مثالاً واقعياً على هذه الجزئية: أحد تجار الأرز البارزين قام ببناء مستودعات ضخمة العام الماضي ثم استحوذ على صفقات كبيرة من الأرز بأسعارها القديمة، وأعاد تخزينها في المستودعات التي أنشئت خصيصاً لها. وبعد ارتفاع الأسعار العالمية، كما يُروج المستوردون، بدأ التاجر في توزيع كميات الأرز المستوردة بالأسعار القديمة على منافذ التوزيع وفق تسعيرة السوق المتضخمة تحت غطاء ارتفاع أسعار التكلفة!! إلا يُعد هذا نوعاً من أنواع الاحتكار الذي نهى عنه الشارع الكريم؟ وإذا سلمنا جدلاً بنظامية تصرف هذا التاجر، ألا يمكن أن يعتبر بيع الأرز القديم، متدني التكلفة، بالأسعار الجديدة المرتفعة نوعاً من أنواع الاستغلال والجشع والتضييق على المسلمين!! الغريب أن أسعار الأرز، على سبيل المثال لا الحصر، باتت تتحرك إلى الأعلى أسبوعياً في الوقت الذي يتطلب فيه استيراد الأرز وشحنه إلى الموانئ السعودية أشهراً طويلة!! أي أن أرز التجار بات مرتبطاً بالبورصة العالمية بدلاً من تكلفة الشراء الحقيقية! مخالفات شرعية تتطلب من أهل العلم الوقفة الصارمة، والفتوى الصريحة المفصلة التي لا لبس فيها، فلعلها تكون المنقذ، والبديل المناسب لتحركات الجهات الرسمية التي لم يكتب لها النجاح حتى الآن.
تجاوزات التجار، واستغلالهم أزمة الأسعار فتحتا أبواب الغلاء على المواطنين. (سرطان التضخم) بدأ يضرب في كل اتجاه مدمراً القيم والأعراف التجارية المستمدة من تعاليم الشارع الحنيف. تجاوزات التجار لم تكن لتستمر لولا ضعف الجهات الرقابية، وتهاونها في إحكام قبضتها على الأسواق، وإدانة مخالفي المنافسة الحرة وأنظمة السوق المفتوحة. اتفاق شركات الألبان على رفع أسعار منتجاتها يُعد خرقاً صارخاً لقوانين المنافسة الحرة، في الوقت الذي يعتبر فيه إعادة تصدير المواد الغذائية المدعومة، أو بيعها على البائعين الجائلين الذين يعيدون بيعها على المستهلك، فرداً كان أم منشأة، بأسعار مضاعفة مخالفة صريحة لتعليمات ولي الأمر، وإضراراً مباشراً بمصلحة المجتمع، واستغلالاً محرماً ل(الدعم الحكومي) الموجه للمواطنين.
تضخم أسعار المواد الغذائية، الأدوية، والمواد الإنشائية إضافة إلى أزمة الدقيق الأخيرة باتت تشكل خطراً محدقاً بالمجتمع، وتزعزع ثقة المواطنين بأداء بعض الوزارات، والمؤسسات ذات العلاقة. أزمات متتالية حدثت في أوقات طبيعية، على الرغم من دعم ولي الأمر، وتقديمه كل ما من شأنه تجنيب البلاد والعباد مثل هذه الأزمات الحادة. ترى كيف يمكن لبعض مسؤولينا التعامل مع الأزمات الحقيقية الناتجة عن الحروب، ونقص الإمدادات العالمية على سبيل المثال لا الحصر؟!
أزمة الدقيق، نقص إمدادات المياه، وتضخم الأسعار يُفترض أن نتعلم منها دروساً في استراتيجية التموين، الخزن الاستراتيجي، وإدارة الأزمات. محنة التضخم ونقص السلع في الأسواق المحلية يُفترض أن تهبنا منحة التفكير العميق في خزن الغذاء الاستراتيجي الذي لا يمكن الاستغناء عنه حتى مع توافر الإمدادات، وإعادة النظر في أسلوب إدارة الأزمات، ومحاسبة المقصرين وترسيخ ثقافة المحاسبة، الإقالة والاستقالة، التي لا يمكن الاستغناء عنها لضمان جودة الأداء وتطوير العمل وتجنيب البلاد كثيراً من المشكلات الناتجة عن التقصير البشري.
أختم بحديث رفاعة بن رافع، رضي الله عنه، الذي قال فيه: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال يا معشر التجار فاستجابوا ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق). فيا أخي التاجر أي الحزبين تريد أن تكون معه يوم القيامة؟ حزب الفجار أم الذين اتقوا الله وبروا وصدقوا؟. أَدعو الله أن تكون في حزب المتقين.
f.albuainain@hotmail.com