ذكية هي مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة)، حيث ضمّنت نظامها الأساسي الجديد فقرات تتيح لها التحرك في فضاءات واسعة مع أدوات وآليات مرنة في الميادين ذات الصلة بالإبداع والموهبة، كما تعينها على زيادة مواردها وتنميتها وتوسيع مجالات أنشطتها وخدماتها. ومن
ملامح ذلك الذكاء المؤسسي راق لي كثيراً ما جاء في المادة الثالثة والتي تتعلق بهدف المؤسسة ووسائل تحقيقه والتي يدخل ضمنها: (التنسيق مع المؤسسات والمراكز داخل المملكة وخارجها في مجال اختصاصها. القيام بمفردها أو بالاشتراك مع غيرها بتأسيس مؤسسات تعليمية أو مهنية متخصصة في مجال الموهبة والإبداع).
في بحث سابق لي طرحت فكرة أحسب أنها تتماشى مع المسئوليات والأدوار الجديدة التي يجب على (موهبة) أن تضطلع بها في مجال الإبداع والموهبة بالقدر الذي يحقق رسالتها ليس داخل السعودية فحسب، بل في الوطن العربي؛ كنوع من الإسهام النهضوي الريادي لمؤسسة موهبة، ويمكنني اختصار تلك الفكرة من خلال المحاور التالية (انظر بحثي: نحو بناء برنامج عربي لتأهيل مهني وتطبيقي في الإبداع والموهبة، المؤتمر العلمي الإقليمي للموهبة - مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين ? 2-6-8-1427هـ - جدة):
ولم تكن مسألة العناية بالمبدعين والموهوبين، قضية مستحدثة في العصر الحديث، بل هي قضية حاضرة في المشهد الاجتماعي في طبقات التاريخ وتقلبات الجغرافيا، فمن ذلك أن الصينيين عمدوا في عام 2200 ق.م لتطوير آلية مقننة لاختيار المتميزين لكي تُسند لهم بعض الوظائف الحكومية، واحتوى التراث اليوناني شواهد كثيرة تدلّل على عنايتهم الخاصة بتلك المسألة، فمثلاً يطالعنا التاريخ اليوناني أن أفلاطون أكّد على أهمية الفروق الفردية في الجوانب العقلية، وذهب إلى تقرير إمكانية التمييز بين الأفراد وقابلياتهم وتطويرها عن طريق تربية خاصة، وكان ينزع إلى تقسيم الأفراد إلى الرجل الذهبي الذي يتفوق بذكائه على الرجل الفضي والفولاذي والنحاسي، ثم يواصل أفلاطون ليبني على هذا التصنيف توجيهاً (مهنياً) لأولئك الأفراد بحسب قدراتهم العقلية، فالرجل الذهبي يوجه لدراسة الفلسفة والعلوم وما وراء الطبيعة في حين يتم توجيه البقية ليكونوا جنوداً وحرفيين، ولم يكتف أفلاطون بذلك، بل ذهب إلى القول بأن رعاية الأطفال المخلوقين من معدن الذهب (تكليف إلهي).
ثم درج التاريخ الإنساني على تجارب وتطبيقات متنوّعة في مجال تمييز الموهوبين والمبدعين، حيث عمدوا إلى الكشف عن الموهبة ورعاية الموهوبين، وقد اختلفت تصنيفاتهم بحسب المنظومة الثقافية للمجتمع والظروف المحيطة بهم، فمثلاً نجد أن الرومان أعلوا من شأن المهندسين والجنود والقادة الحربيين وكانوا يجرون عمليات الاختيار والتدريب في مراحل الطفولة المبكرة ويدخلون المعوقين في ذلك، واحتفى العرب بالخطباء والشعراء والفرسان الشجعان في عصر الجاهلية وشهد التاريخ الإسلامي مراحل ذهبية وجهت فيها جهود كبيرة لرعاية العلماء والاهتمام بالنابغين.
كما أن التأهيل المهني والمعرفي يعد مقوماً رئيساً لنجاح العملية التعليمية والتدريبية في تحقيق أهدافها، ومما يؤكّد الاهتمام بمسألة ذلك التأهيل قيام بعض الدول المتقدمة في مجال التدريب بتأسيس منظمات ومؤسسات تختص بمنح شهادات التأهيل عبر برامج تأهيل خاصة، فمثلاً يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية برامج متعددة منها: برنامج المدرب الفني المؤهل Certified Technical Trainer CTT، ويختص هذا البرنامج بالموضوعات التقنية، وبرنامج المدرب المؤهل للتطوير المهني Certified Professional Development Trainer CPDT، والذي يركز على ما يعرف بالمهارات اللينة (أو الرخوة أو اللينة أو الدقيقة على اختلاف في ترجمتها!) Soft Skills، ويستند هذان البرنامجان على المقاييس والضوابط الخاصة بالمجلس العالمي للمقاييس المعيارية للتدريب والأداء والإرشاد International Board of Standards for Training Performance and Instructions IBSTPI.
وأعتقد أن مجال الإبداع والموهبة بات حرياً بأن يُخصص له تأهيل معرفي ومهني خاص به، مع ضرورة اصطباغ ذلك التأهيل بالتنوع لكي يصبح ملائماً لمختلف الشرائح وملبياً لاحتياجاتهم المتنوّعة في مجالات التربية والتعليم والعمل والإنتاج. أي أن هذا التأهيل الذي ننشد إيجاده على منوال غير سابق يستهدف منح شهادات مهنية مصدّقة ومعترف بها لكل من يجتاز الاختبارات المقننة من قبل الجهة المهنية المختصة ويدخل في هولاء: المعلمون والآباء والمهندسون وغيرهم. ويمكن إرجاع المبررات التي تدعونا لتبني ذلك التأهيل في مجال الإبداع والموهبة في العالم العربي إلى ثلاثة أسباب جوهرية هي:
1- أهمية الكشف عن الموهوبين والمبدعين وتنمية مهاراتهم ومواهبهم في المجتمع السعودي، بل في العالم العربي خاصة أن بعض الدول العربية (كالسعودية والأردن) تشهد صحوة فكرية وتنموية وجعلت تُراكم خبرات متزايدة ومتنوعة في هذا الاتجاه، باعتباره رافداً رئيساً في مشروع التحضر العربي الإسلامي.
2- ضعف الإيمان من قبل نسبة كبيرة من طلابنا وطالباتنا بأهمية الإبداع، ومما يؤيّد تلك النتيجة الخطيرة أن دراسة عربية أجريت على 500 طالب وطالبة جامعية (في أربع كليات مصرية) وخلصت إلى أن 83% منهم لا يهمهم الإبداع على الإطلاق (انظر: د. مصري حنورة، الإبداع وتنميته من منظور تكاملي)، وربما نضيف بعداً آخر لا يقل خطورة عن سابقه وهو ضعف منسوب (الثقة في الذات) لدى فئة الأطفال والشباب العربي بأنهم يمكن أن يكونوا مبدعين سواء كان إبداعاً كبيراً أو عادياً، وهذا يستدعي حداً أدنى من التوعية بإمكانية ممارسة الإبداع العادي - على الأقل - في أي مجال بشروط محددة، وهنا تتأكد المهمة الخطيرة للثقافة في هذا المجال.
3- ضعف الوعي لدى عموم المعلمين والآباء في عالمنا العربي بأهمية وأساليب رعاية الأطفال الموهوبين والمبدعين والاهتمام بهم وضرورة اكتشاف مهاراتهم وقدراتهم وتحديد ميولهم العلمية والمهنية، مما يدفع باتجاه تعزيز الوعي لديهم بضرورة تنميته الإبداع والموهبة، خاصة أن بعض الدراسات العربية قد أكدت على سبيل المثال أن أداء المعلمين قد تحسن بشكل ملحوظ عندما سنحت لهم فرصة الاطلاع على حقيبة تنمية مهارات الإبداع مما انعكس إيجاباً على أداء تلاميذهم، كما توضح دراسات أخرى أهمية استخدام الألعاب في تنمية التفكير الإبداعي لدى الأطفال التي يمكن توفيرها في البيئة التعليمية والتربوية.
4- الصعوبة البالغة في إجراء عمليات الكشف عن الموهوبين والمبدعين، ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب ومنها:
أ?- تعدد المهارات والقدرات والمواهب التي يجب اكتشافها ومن ثم تنميتها.
ب?- الصعوبات المنهجية والإجرائية في عمليات القياس للمهارات والقدرات والمواهب المتنوعة.
ج- عدم توفر أدوات قياس علمية عربية مقننة تحظى ب (الصحة) و(الثبات) وفوق ذلك وقبله وبعده ب (الاحترام العلمي) المتمثل في استخدامها الفعلي في الأبحاث التطبيقية.
هذه ملامح عامة للفكرة، وسيكون لنا وقفة أخرى نجلي فيها ملامح أخرى أكثر تفصيلاً، مع إعادة التأكيد على تفاؤلي بما سوف تصنعه لنا (موهبة) على المستوى المحلي والعربي، فهي تمتلك مقومات ريادة وجودة في مجال صناعة الموهبة ورعاية الإبداع.
beraidi2@yahoo.com