مشكلتنا دائماً مع المتشددين تكمن في ضيق أفقهم، وعدم قدرتهم على قراءة المستقبل، والتكيّف مع مستجداته ومواكبة متطلباته. التشبث بما هو كائن، والإصرار عليه، دون قراءة (المآلات) قراءة موضوعية وواقعية، سيؤدي بنا بالضرورة إلى طريق مسدود كما هي مشكلتنا معهم دائماً. ومن قرأ تاريخنا القريب، سيجد أن هناك الكثير من المتغيرات التي فرضت نفسها في نهاية المطاف، واضطر أصحاب الخطاب المتشدد من الرضوخ لضروراتها، رغم أن المتشددين كانوا في البداية يتمسكون حيالها بما هو كائن، ويتحاشون أن تتسع آفاقهم إلى ما يحمله المستقبل من تطورات محتملة، فلا يحيدون عن مواقفهم إلا إذا وقعت كوارث، أو وصل الأمر إلى ما يمكن أن نسميه عنق الزجاجة، فيتراجعون، غير أنهم لا يتعلمون من تراجعهم هذا درساً يستفيدون منه في قضايا مشابهة في المستقبل لما كانوا يرفضونه في البداية، ثم حادوا عن رفضهم لها إلى القبول بها في النهاية.
وهناك قائمة مازلنا نتذكرها، تعامل معها المتشددون في أول الأمر بالرفض والممانعة، والإصرار على الوضع الراهن لا يحيدون عن موقفهم هذا قيد أنملة، ثم أمام إلحاح الواقع الذي عادة ما يفرض نفسه، يتراجعون ويقبلون بما تمليه الضرورة في نهاية المطاف.
وفي القضايا الشرعية التي ينقسم حولها آراء الفقهاء إلى آراء عدة، قد تصل أحياناً إلى درجة القبول أو المنع، فإن الشريعة الغراء أعطت لولي الأمر دون سواه، أن يتحرى المصلحة من بين آراء الفقهاء، ويأخذ ما يراه مواكباً لمصلحة العباد ومقتضيات الظروف بين هذه الرؤى والاجتهادات منطلقاً من القول المأثور (اختلاف الأئمة رحمة للأمة).
وعندما يتخذ ولي الأمر (القرار) يصبح ملزماً للجميع، العالم والعامي لا فرق، انطلاقاً من أن اختيار ولي الأمر يرفع الخلاف مثلما هو معروف وبالتالي فإن من يُعرّض بأي قرار يتخذه ولي الأمر، وينتقده في وسائل الإعلام، ويندد به، ويحشد ضده الناس - وإن بطريق غير مباشر - أخشى أن يشمله ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
فالطاعة ومرجعية تقدير (المصلحة) في دولة الشريعة هي حق (حصري) لولي الأمر صاحب البيعة الذي أناط الله جل وعلا به حفظ المجتمع وأهله، وهو تكليف له منه سبحانه وتعالى، ومن أجل مهماته القيام بما يصلح حال وشأن الأمة، ويعود عليها بالنفع العاجل والآجل في أمور دينها ودنياها، وليس لأي أحد سواه، كبر (سواه) هذا أم صغر، طالما أنه أخذ برأي عالم أو أكثر. وعندما نحيل (المرجعية) إلى غير صاحب البيعة، مهما كان شأنه، ومهما علت منزلته العلمية، أو منصبه، فنحن بذلك (عملياً) ننازع الأمر أهله.
الأمر الآخر، والذي سأتطرق إليه في مقال لاحق إن سمحت الظروف، أن للضرورات أحكامها، وعندما لا نأخذ هذه الضرورات والمتغيرات بعين الاعتبار، ولا نراعي التطورات، فإن هناك من سوف يقتنص الفرص للتوسيع على الناس مراعاة ما استجد من ظروف، ليس في داخل البلاد فحسب، وإنما من خارجها أيضاً، فلسنا وحدنا (المسلمين) الذين نعيش في هذا الكوكب. هذا ما يجب أن نضعه دائماً بين أعيننا أيها السادة.