Al Jazirah NewsPaper Sunday  24/02/2008 G Issue 12932
الأحد 17 صفر 1429   العدد  12932

الصواب المهجور والخطأ المأثور
سلامة بن هذال بن سعيدان

 

بادي ذي بدء فإن صواب الشيء هو حصوله على الوجه الصحيح، وتبعاً للأسلوب السوي الذي تنطبق حثيثاته على واقعه وحقيقته، بالشكل الذي يمهد الطريق إلى النجاح ويضمن تحقيق الهدف من هذا الشيء، بعيداً عن الأخطاء التي تؤدي إلى انحراف المسار والفشل.

والإنسان الذي يكثر صوابه، يتفوق على أترابه، ويقل ارتيابه، راسماً منهجه، وعارفاً مدخله ومخرجه، أما الذي لا يتحرز من الأخطاء فينحرف عن جادته ويبتعد عن غايته، والأول خليق به أن يحالفه التوفيق ويستقيم له الطريق، بينما حري بالثاني أن يخفق في نتائج عمله ويخيب أمله.

وهذا الواقع الذي يقرِّه العقل ويشهد له المنطق لا يقوم له قائمة إلا في بيئة صحية تدرك معنى المأثورة القائلة: بأنه لا يصح إلا الصحيح، محققة معناها وموثقة مبناها، موصدة الباب في وجه الأخطاء قبل حصولها، ومُحيّدة آثار ما يحصل منها عن طريق سرعة تصويبه والاستفادة منه، أما البيئة الأخرى فالصواب فيها يغلب على أهله الخجل، ويظهر على تصرفاتهم الوجل، بسبب تقديم الهوى على الهدى والتعويل على السمع أكثر من النظر، وما يعنيه ذلك من عكس المفاهيم وتحويل النعم إلى نقم، ولسان الحال كما قال الشاعر:

تعس الزمان فإن في إحسانه

بغضاً لكل مقدّمٍ ومفضّلٍ

وتراه يعشق كل نذل ساقط

عشق النتيجة للأخس الأرذل

ورغم أن الأخطاء من طبائع البشر، وأن الكامل من عدّت هفواته، كما أن الأخطاء قد تكون حافزاً إلى الصواب، وقد تزداد قوة العظم بعد كسره وجبره إلا أن استمرأ الأخطاء واعتيادها من قبل البعض يشكل أمراً بالغ الخطورة له مضاره المؤلمة وآثاره البعيدة على المصلحة العامة، والدافع وراء هذه الأخطاء قد يكون تارة من أجل المصالح الخاصة، وتارة ثانية بسبب الكسل والإهمال، وتارة ثالثة نتيجة للتحلل عن المسؤولية والتفريط فيها لضعف الوازع الديني وفتور الإحساس الذاتي من جانب، وغياب المراقبة والمحاسبة من جانب آخر، الأمر الذي جعل الممارسات الخاطئة في حكم الواقع المأثور، علاوة على تحول المظاهر المرفوضة إلى مسلمات مفروضة.

والواقع أن صواب الأمور، وما يشوبها من نقص، ويعتريها من أخطاء يمثل حكمة ربانية وطبيعة كونية، يتفاضل بموجبها الناس، ويتحدد من خلالها الكثير من المتناقضات، فضلاً عن أن الصواب في الغالب يعكس زينة هذه الأمور والجوانب الحسنة فيها، في حين أن الأخطاء تكشف عن سوءتها وقبحها.

وصواب الأشياء يعد مطلباً للاستفادة منها، وطرح ثمارها، وإذا ما حل الخطأ محل الصواب، احتجبت المكاسب واستفحلت المتاعب على النحو الذي يضر بالمصلحة العامة ويجعلها في مهب الريح، الأمر الذي يحتم على الإنسان العاقل أن ترتكز أفعاله على قاعدة الصواب متبعاً الأساليب الصحيحة، ومتوسلاً الوسائل الصائبة، بما يخدم المصالح العليا ويغلبها على ما سواها.

وحتى يكون الصواب مأثوراً لا مهجوراً، والخطأ يصبح ممنوعاً لا متبوعاً، لا بد من اتباع المنهج الرباني والشريعة الإسلامية السمحة، والمحافظة على المصالح المعتبرة مع التصدي للفساد وإنكار المنكر، بما يترجم الصواب في الأقوال والأفعال، ويصوب الأخطاء ويحجم آثارها، ويجعل منها سبيلاً إلى اكتساب الخبرة وأخذ العبرة.

والالتزام النابع من الذات والإحساس بالمسؤولية وإدراك قيمة الواجب من الأمور التي تخدم الصواب ويترتب عليها وجوده، ويختفي معها الخطأ، خاصة إذا ما امتزجت هذه القيم مع قيم الولاء والانتماء والمواطنة الصالحة، وتبلورت هذه المثل جميعها في بوتقة المصلحة العامة، موضوعة تحت المحك، والأطراف التي تتنازعها في المعترك، عندئذ يتأكد للكل أن النجاح لا يرتجل، ولن يتأتى في غياب الصواب ومعطياته، كما أن الأخطاء التي قد ترتكب في البداية تظهر آثارها في النهاية بصورة يصعب التحرر منها وتجنب مضارها.

والإنسان السوي قد يجد في الحذر وقاية من الأخطاء، وبالتحديد تلك الأخطاء التي تنال من المصلحة العامة، موفقاً بين الحزم وما فيه من سوء الظن وبين التلطف في الحيلة، واعتبارها أجدى من الوسيلة، مع البعد عن معاول الهدم التي تجعل الحذر يفقد قيمته، ويظهر بعض هذه المعاول في الإفراط في التحفظ واستحكام عقدة التردد أو التفريط في ذلك بالانجذاب خلف المغريات والمصالح التي تفرغ الصواب عن مضمونه، محولة إياه إلى درك التجاهل والإهمال، ومن أعظم مطاعن الحذر ومعاول هدمه في هذا الجانب وقوع الإنسان في أكبر الأخطاء وهي تنزيه النفس عن الخطأ وعدم الاعتراف به عند الوقوع فيه أو ادعاء معرفة جميع الأخطاء، ويدخل في مفهوم الحذر واليقظة الاستفادة من التجارب والاعتبار من الأخطاء التي يقع فيها المرء أو يقع فيها الآخرون، وقد قيل من لم يعتبر فقد خسر.

وإذا كان جماع الحكمة يكمن في التحرز من الأخطاء وأخذ العبرة والاستفادة من أخطاء الغير، فإن من الحكمة أن يستفيد الإنسان من أخطائه وأن لا يكررها، إذ إن من لم يتعظ من نفسه ولم يعتبر من غيره، يكون عرضة للانتقاد ويجانبه السداد، طاعناً في أمانته ومسيئاً إلى مكانته، ولا ينطبق هذا الوصف على أحد مثلما ينطبق على شاغل المنصب الذي يرأس شريحة من الناس، حيث يترتب على أي قرار خاطئ يتخذه أو عملاً مشيناً يقترفه الإضرار بالمصلحة العامة. وإلحاق الأذى بالمرؤوسين، كما أن تكرار الخطأ وما ينجم عنه من سلبيات يقلل من شأن الرئيس ويحط من قدره في أعين هؤلاء المرؤوسين، وبالتالي يفقد مصداقيته وتهتز صورته أمامهم، دون أن يشفع له نسبة الخطأ إلى غيره، طالما حصل الانطباع السلبي واختلت القناعات.

والاستشارة لها دور بالغ في الوقاية من الأخطاء، إذ إن من عزز رأيه بالرأي الآخر قمين به أن يظفر بالصواب، شريطة أن يكون المستشير مخلصاً في استشارته، حريصاً على الاستفادة منها في الاتجاه الصحيح، وأن يكون المستشار على درجة كبيرة من النصح والوفاء لمن طلب منه الرأي والمشورة، لكي يحصل المردود المثمر منها رأياً صائباً يحقق هدف المستشير ويريح ضمير المشير.

ومن هذا المنطلق فإن المستشير إذا لم يكن صادقاً في استشارته وله مآرب أخرى يسعى إلى تحقيقها، ولجأ إلى المشورة ليجعل منها غطاءً لهذه المآرب، حينئذ يبطل مفعول المشورة، ويتحول صوابها إلى خطأ، بوصف النية الباطلة والوسيلة الفاسدة لهما الغلبة على ما عداهما.

وعلى الجانب الآخر فإن المشير إذا ما كانت له مقاصد شخصية، تعاكس أهداف مستشيره في موضوع الاستشارة أو على هامشها، ونزولاً عند ذلك تجرد من الإخلاص والنصح له خدمة لهذه المقاصد واستجابة للأثرة المفرطة، فإن الاستشارة عندئذ تكون كاذبة والنتائج خائبة منطبقاً على طرفيها منطوق الحكمة القائلة: من استرشد غوياً ضل ومن أدنى خائناً ذل.

وإذا كان الصواب تترجمه الخطط السليمة والأنظمة الصحيحة والتعليمات الواضحة، وما تستند إليه من علوم الدين والدنيا ومكارم الأخلاق ونظريات الدراسة وفنون الممارسة، فضلاً عن ما يتخلل هذه الأصول الثابتة من فروع متغيرة، وما يؤطرها من قيم ومثل، ويدعمها من تنفيذ محكم، فإن هجر ذلك يكون في تغييب الفكر وتجاهل هذا الأمر، وتنكبه خلف الظهر، واستبدال معطيات الصواب بالارتجال وترك الأمور للمصادقات والتنفيذ كيفما اتفق، ناهيك عن استمرأ الأخطاء وإحلال المزاجية والتلون محل القناعات الراسخة والثبات على المبدأ والانسياق وراء المصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة.

والواقع أن ضعف الوازع الديني والتحلل من القيم والآداب العامة ومظاهر الفساد الإداري، ما تفشت في مجتمع واستفحلت فيه إلا أصبح فيه الصواب مهجوراً والخطأ مأثوراً، فهذا يرتشي ويقول الرشوة رشاء الحاجة، وذاك يختلس ويغلّف اختلاسه بمسميات ومصطلحات تضفي عليه القبول، والآخر غايته تبرر وسبلته، ولله در القائل:

ظهر الفساد وأصبحت طرق الغنى

وقفاً على من يرتشي أو يعتدي

وعلى الذين يتاجرون بعرضهم

ما بين شارٍ رائحٍ أو مغتدي

أمّا الشريف أخو الإباء فإنه

يمسي ويصبح كالذليل المجتدي

إن الأساس لكل بانٍ مصلحٍ

هدم الفساد ودق رأس المفسد

ورغم أن صواب الأشياء هو أساسها، ويعتمد عليه صلاحها إلا أن الصح عادة ما يكتب على سطح الماء والأخطاء تحفر في الصخر لاعتياد الناس على الصواب ونفاد صبرهم من الخطأ، ولكن تكرار الأخطاء وكثرة اعتيادها يجعلها أمراً مألوفاً لانتفاء التحرج واختفاء قيود الصواب وتحديداته نتيجة لضبابية الخطوط الحمراء وضعف الحياء، وهذا من أخطر مظاهر الخطأ المأثور.

والاستقامة على الصواب والخروج عن دائرة الخطأ المأثور لن يصل إلى المستوى المنشود إلا باتباع الهدى واجتناب الهوى وإصلاح الذات مع تكريس المواطنة الصالحة والالتفاف حول القيادة بعيداً عن ظلم النفس والاستماع إلى كل ناعق وداعية ضلال على النحو الذي يعطل العقول ويسخرها لخدمة الشر والشهوات.

وتأسيساً على ذلك يتعين أن ينصب الاهتمام والتنافس على كل ما يؤدي إلى إعلاء كلمة الله وصدق الانتماء إلى الأرض وطاعة ولي الأمر، واعتبار الممارسات الصائبة كلها تنطلق من هذه القاعدة، والأخطاء التي تحصل تمثل طريقاً إلى الصواب وتنسجم مع الحكمة القائلة: لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد