الأمل حبل فضفاض يتعلق به كثير من الناس، وقشة يمسك بها غرقى الحياة، لولاه ما عاش الناس على ظهر البسيطة، ولولا ماؤه البارد العذب الذي يسكبه المتأملون على جراح الحياة النازفة لما استطاعوا الصبر لحظات، ولماتوا ألماً وكمداً وهو يعدون أيام العمر ويحصون عذاباته المرّة؛ فالأمل هو متكأ منكوبي الحياة ومحزوني الوجود.
برغم تباين ظروف الناس واختلاف مناكبهم وآلامهم وآمالهم وصنوف نكبات الدهر لهم ومحنه ورزاياه، لكننا لم نجد شخصاً واحداً يؤمل في الحزن، أو يرجو من الإحباط أن يحل مشاكله أو يذهب همه وغمه، بل الجميع ينتظرون الأمل القادم أن يحمل لهم السعادة على أجنحة الغد المأمول ويزيل آلام اليوم ويكفكف دموع الأمس؛ ومن هنا تأتي نكبة الأمل للمأمولين وتنفذ جراحاته للآمنين المخدوعين به.
فالمتأمل لا يعرف من شؤون الأيام إلا ما يروق له قلبه، وينشرح له صدره، وتقر له عينه، ويهنأ له فؤاده؛ فكل الناس يظنون أن الأمل هو السعادة، وأن المستقبل لا يعرف الحزن أو الألم، وأن الدهر قد سكب كل عذاباته وجراحه وآلامه وراء ظهورنا، ولم يبق له من لواعج مرة يختزنها لقادمات الأيام.
إذا كانت الآمال العراض تمثل أمواجاً متلاطمة في نهر الحياة السريع الجريان، وإذا كان تعاقبها يمثل تعاقب الليل والنهار، وتعاقب اليقظة والأحلام، وتعاقب استخفاء الليل وسرب النهار؛ فإن واقع الحقائق الماثلة أمامنا يمثل صخرة الساحل التي تتكسر عندها أمواج الأمل مشلولة بلا قدرة أو حراك وتموت حزينة بين أحضان الشطآن كما يموت الطفل العليل في حضن أمه العاجزة عن فعل شيء لإنقاذه، ويبقى الإنسان حزيناً؛ لأنه أرسل آماله إلى أبعد من مداها، واسترسل في فضاءات اللا وعي واللا معقول.
يقولون إن الأمل هو حياة الإنسان، ولكن ما قتل الإنسان ولا قضّ مضجعه ولا أرق منامه ولا نغص عيشه ولا بدد سعادته ولا شتت شمله غير الأمل، وهو وحده المسؤول عن عذابات المعذبين ونكبات المنكوبين.
نعم الأمل والإفراط في الرجاء لما في يديه هو وحده الذي يقتل الإنسان، وهنا بالطبع ليس المقصود الموت؛ فهذا سلطان آخر، بل الموت هنا مجازي؛ فهو موت الإحساس وموت الرجاء وموت الشعور بطعم الحياة وتذوق سعادتها وفقدان الحواس للتمييز بين طعم كل موقف من مواقفها وكل نفحة من نفحاتها؛ لأن اليأس المحبط لا يتسلل إلا من خلال ثقوب الأمل القاتل.
عندما يموت الأمل في عيون النساء والرجال تموت القلوب في الحنايا وبين الضلوع، وتموت النفوس في مكامنها، وتموت الأحاسيس والمشاعر في خباياها، وليت الموت فقط توقف الدم في الشرايين والأوردة وخروج الروح من الجسد، لو كان كذلك لهان الأمر على كل متجرع للموت؛ لأن معاناة الموت هنا ستكون وسط عالم الأموات، ولكن كيف بمعالجة ميت في عالم الأحياء؟ وكيف يكون التعاطي معه وهو مقتول بخنجر الأمل المسموم ومطروح على أرض الواقع التي لم تعد تحتمل حتى الأحياء، ناهيك عن الأموات؟
كم من سامر يبث الليل شكواه، ويداعب النجوم العصية، ويشعر بأن البدر أنيسه والليل جليسه والأفلاك موكب في حضرته، حتى إذا أطل الصبح نزفت جراحه وسحب الأمل خيوطه من بين يديه، وتركه كالرضيع الذي انسلت أمه من فراشه وهو ممسك بثديها بين شفتيه، يظل سجين الأمل يتجرع كؤوسه المرة كل ليلة حتى إذا جاء على آخر كأس ذهبت معه روح الأمل وعدّ نفسه في عداد الأموات.
الركون السرمدي إلى الأمل وإلى أمان الأيام وعدم الانتباه إلى دورتها وتقلباتها في الأفلاك هو إقدام على تعاطي الموت على يد الأمل وخضوع لطعنات خنجره المسموم بين غدر الزمان ومكر الدهر وتقلبات الليالي. إن لفتة إلى الوراء من الدهر وتكشيرة من أنيابه أمر أشد إيلاماً وأعمق جرحاً من خنجر (بروتس) الذي سدده في أحشاء (يوليوس قيصر) وهو أقرب الناس وأحبهم إليه.
بموت الأمل يموت كل شيء جميل في هذا الوجود، تموت الكلمات في صدور الشعراء، والألحان في أصوات البلابل، وتموت الأزهار في أكمامها، وتختبئ الكواكب في بردة الليل البهيم، وتعجز العصافير عن التغريد لكل صباح جديد، وتختل سرعة النسمات ويرتبك هدوؤها، ويخالف الوجود سحره المعهود، وتسرق الأحلام من مضاجع الصغار، فكيف لفاقد الأمل أن يتذوق الحياة بعد إفراغها من كل مضامينها؟ وكيف لنا أن نعده من الأحياء ليسلك مسلكهم ويحيا حياتهم؟
هذه ليست دعوة إلى فقدان الأمل؛ فهو غريزة لا يمكن الإضراب عنها أو التمرد عليها، لكنها نظرة إلى الحياة، كما هي اليوم، بلا رتوش، حيث لا أمل لتبديلها إلا وفقاً لمعطيات الحاضر، وبحسب حقائق الواقع، وأن حياتنا هي التي نعيشها مبسوطة أمامنا، وليست تلك التي يخفيها الأمل وراء ظهره ويرفض الإفصاح عن ملامحها بطول الآمال والآجال.
الإفراط في الأمل والتعويل عليه وترحيل كل مشاكل الحاضر إلى ملفات الأمل، والعبور من فوق الحقيقة الماثلة هو إقدام على لف حبل مشنقة الأمل حول العنق (طواعية). حقاً في الأمل متعة ورجاء، ولكن هل فيه سعادة حقيقية وحلول مرجوة لمشكلات الساعة وقضاياها؟
* Shunkul60@hotmail.com