معركة يومية نخوضها ونحاول أن ننتصر فيها، وأحياناً نخسر فيها، معركة الحياة تنسينا نهايتنا الحتمية أحياناً، كل فرد منا يخوض هذه المعركة وهو لا يحمل سوى سلاح ضعيف، يخوضها ولا يعلم متى يعلن رحيله من هذه الحياة.. بتاريخ 25-1-1429هـ نقل لي نبأ وفاة رجل من أهل الصلاح والفلاح، رجل نحسبه والله حسيبه، رجل يرفع صوت الأذان كل يوم خمس مرات..
يبتدئ بصلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء في مسجد قرية جراب هو صنهات بن فلاح المريخي، كبير في السن، ويضع أمامه في المسجد مصحفاً كبيراً يُرتل فيه آيات الله، يرتل السبع المثاني من القرآن الكريم، ويرتل سورة الكهف يوم الجمعة، يأتي إلى المسجد مبكراً الساعة التاسعة صباحاً كل يوم جمعة ويبقى وسط روضة المسجد، يريد أن يتزود من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الأبدية، يرغب أن ينقل زاده معه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، هي الحياة مليئة بالأفراح والأتراح، هي الحياة مليئة بالتقلبات، هي الحياة لا تستمر على نهج واحد، بل تتقلب كل يوم لها شأن، هذه سُنَّة الله، وهذا هو ديدن حياتنا، مرة يأتي من ينقل لنا التبريكات والتهاني بمناسبة سعيدة.
ومرة يأتي من ينقل لنا التعازي لفقْد شخص منا، جُبلت الحياة على المصائب والأكدار، التي لا نستطيع مقاومتها إلا بالتسلح بالإيمان القوي، عندما تنقض علينا خطوب الحياة وتنهش في أجسادنا وتغيِّر ملامحنا، نقف صامدين موحدين مسترجعين، متذكرين الوعد الذي وعد فيه الله الصابرين عندما تنزل عليهم المصائب، نسترجع ونكثر من {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، نعلم أننا وسط حياة متلاطمة الأمواج نستقل مركباً فيها غير آمن، مركباً مرة يهوي بنا إلى قاع البحار العميقة، ومرة ينقلنا إلى سطحها، ومرة تقذف بنا الأمواج العاتية، لا نستقر على وضع واحد، ومع ذلك تبقى كدمات الحياة باقية فينا، وتبقى آلامها مستمرة معنا، من المهد حتى اللحد، نواجه متاعبها، وتخيفنا فواجعها، ونقلق من هجومها القادم علينا، لا نعلم ماذا تخفي لنا؟؟!! ولا نعلم بماذا هي حبلى؟؟!!
هي حبلى بالفواجع، هي حبلى بالأقدار التي نؤمن بها، هي حبلى بالمصائب، هي حبلى، وأي حبلى.. حياتنا، ولادتها متعسرة ننتظر الغائب فيها ولا نعلم ماذا يحمل معه، نفرح بقدومه لكن ماذا يخفي، نستبشر بوصوله، هذه أيامنا، وهذه ليالينا فواجعها متجددة، وطوارقها متعددة، ونوازلها قاصفة، وخطوبها مؤلمة، إذا أقبلت أضحكت، وإذا أدبرت أبكت، وإذا تزينت أعجبت عشاقها، اللاهثين خلف جمع حطامها، الراكضين خلف شهرتها، المتسارعين بخطواتهم إلى جاهها، ركبهم لا يتوقف، وعزيمتهم لا تُفل، وإرادتهم لا تكل من أجل اللحاق بهذه الدنيا التي تزينت لهم، من أجل الحصول على أكبر رقم من مقتنياتها الفانية، مستمرين ومتعجلين أفراداً وجماعات، قطيعاً وجموعاً، حتى يأتي من ينقل الخبر، حتى ينعي الناعي وفاة فلان، يتوفون خوفاً من هذا الضيف الذي هجم على رفيقهم، ويتأملون في وضعه، لكن هيهات هيهات ما هي إلا لحظات وتعود المياه إلى مجاريها.. ها هي حياتنا وهذه قصصها وفصولها وأبوابها، رحمك الله يا أبا فلاح، وأسكنك جنات النعيم، فأنت الذي أذّنت بالمسجد وتؤم جماعته نتذكّر صوتك ونحن طلاب في مدرسة جراب الابتدائية.. تأتي قبل الأذان حرصاً على دخول الوقت، أنت الذي يسمع صوتك تنقل صوت الحق ترفع (حي على الصلاة حي على الفلاح)..
لكن الآن جراب فقدت صوتك يا أبا فلاح، أنت الذي عُلت جاريات وقمت بنقلهن يومياً من أجل تكملة تعليمهن، تعبت لكنك صبرت واحتسبت، حتى أكملن تعليمهن، لم تتوقف إلا بعد أن أوقفك المرض، وأنابيب الأطباء اعتلت جسمك، وطوّقت أعضاءك، مأجور - إن شاء الله-، وعلى خير بمشيئة الله، أجرك يضاعفه رب السموات والأرض، اللهم أنزل شآبيب رحمتك عليه في قبره، اللهم انقله من ضيق اللحود إلى الظل الممدود.
ودائماً هذه حياتنا، لكن لا نقول إلا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. نرددها إذا حلّت بنا الأقدار، وعصفت بنا الأكدار، وضاقت بنا الديار، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} نكثر منها، هي زادنا وهي قوتنا، هو الموت يأتي إذا انغمسنا في ملذات الحياة، وهو الموت يهجم علينا إذا غفلنا عنه، وهو الموت يرعب الكبار ويخيف الصغار، كم طفل يتّمه وكم أم بسببه مكلومة، وكم امرأة رمّلها، لكن هذه هي الحياة، حياة وموت..
بعدهما حياة لا موت فيها، اللهم اجمعنا في جنات النعيم يا حي يا قيوم.
* عضو هيئة الصحفيين السعوديين الأرطاوية