الجزيرة - خاص
حددت الشريعة الغراء الأنصبة في المواريث أدق تحديد وبينت هذه الأنصبة أفضل تبيين، حيث تولى الخالق سبحانه وتعالى وهو العادل قسمة المواريث وأنزل آيات في ذلك تتلى إلى يوم القيامة، وقد امتثل عموم المسلمين في كل العصور لهذه القسمة العادلة، إلا أنه في كثير من الأحيان تضل العقول والقلوب عن ذلك، ويعمي الطمع العيون عن الحقوق أو يقود الجهل البعض إلى حرمان الإناث من ميراثهم، أو حرمان الزوجات الأجنبيات وأبنائهن، وقد يصل الأمر إلى حرمان بعض الأبناء من الميراث، لسبب أو لآخر.
وقد يقدم الأخ الأكبر على الاستيلاء على ميراث إخوانه الصغار الذين هم تحت وصايته، وربما أضاع هذا الميراث في عمل أو تجارة، وربما نما هذا المال، ولم يحصل منه الورثة الأصليون على شيء، ويدخل في ذلك أيضاً الأوقاف التي يتركها بعض المتوفين، ويسيء نظراؤها من الورثة إدارتها أو يطمعون في غلتها أو أصولها.
وتشهد أروقة المحاكم الكثير من القضايا لحالات الاعتداء على المواريث أو حرمان أصحابها منها، وأكثر ما يثير الحزن في هذه القضايا أنها تجعل الأشقاء وأبناء العمومة والأرحام في مواضع خصومة، وقد تصبح خصومة متوارثة بين الأبناء من الأجيال الجديدة.
وكثيراً ما يدفع الحياء والحرج البعض الى عدم الذهاب للمحاكم طلباً لميراث ضائع، أو حق مهضوم من قبل شقيق أو عم.. على الرغم من كل ما يمثله هذا الأمر من مخالفة للشريعة واعتداء على الحقوق لا يقل خطرا من ناحية أثره عن السرقة واللصوصية، وقد اختارت (الجزيرة) أن تفتح هذا الملف الشائك (لصوص المواريث) على ضوء مشاهدات ووقائع في أروقة المحاكم، وهذه المشاهدات هي قليل من كثير من القضايا والنزاعات التي لم تصل للمحاكم ولم ينظرها القضاء.
* بداية لا يكاد أحد منا لم تصل إلى مسامعه قصة نزاع حول ميراث، بل إن الوقائع والأحداث في هذا الشأن كثيرة، وبعضها يدمي القلب لما نتج عنه من تقطيع للأرحام وإثارة الخصومة والكراهية والأحقاد بين أبناء الأسرة أو العائلة الواحدة، وتكثر الروايات التي يحكيها كثير من النساء حول اعتداء اخوتهم الذكور على حقوقهن في الميراث ومن ذلك ما ترويه السيدة د.ن.أ فتقول: توفي والدي وترك لنا ميراثا كبيرا من أموال وعقارات وتجارة كان يديرها أخي الأكبر، وكنت في ذلك الوقت متزوجة من رجل ميسور الحال، فلم أشغل نفسي بالسؤال عن حقي فيما تركه والدي، ولم يقدم أخي من تلقاء نفسه على أن يمنحني إياه.
* ودارت الأيام وتبدلت الأحوال ومر زوجي بضائقة مالية صعبة، أثرت على حياتي وحياة أبنائي ولم نعد نجد ما يقيم حياتنا، وخاصة بعد أن توفي زوجي وعليه كثير من الديون، عندها طلبت من أخي حقي من الميراث، لكنه أخذ يماطلني ويخبرني أن التجارة كسدت وتراكمت عليه الخسائر، وعندما سألته عن حقي في الأموال والعقارات، أخبرني أنها ملكه وأن والدنا قد باعها له، على الرغم من علمي أن ذلك ليس صحيحا، لكنني لم أشأ أن أخسر شقيقي الوحيد أو أن أقف أمامه خصما في ساحات المحاكم، فالتزمت الصمت على الرغم من أنني أعيش حياة صعبة جعلتني أقبل ما يقدمه لي المحسنون من الصدقات.
* وقصة أخرى تحكيها السيدة س.ع، وهي لا تقاوم دموعها تقول أنا امرأة فقيرة ومن عائلة بسيطة، تزوجت من رجل ثري، وكان متزوجا من قبل وله أبناء كبار، وعشت معه سبع سنوات أنجبت له خلالها ولدين وبنتاً، وعندما توفي كنت أعيش في منزل خاص من ممتلكات زوجي، وفوجئت بأن أولاده الكبار يطالبوني بإخلاء المنزل لأن والدهم باعه لواحد منهم، وعلى الرغم من أنني لم أكن أريد أن أدخل في نزاع أو خلاف مع أشقاء أبنائي، إلا أن إصرارهم على حرماني وأولادي من حقنا في الميراث جعلني مضطرة لذلك لأنني لا أملك مكانا أعيش فيه ولا مصدرا للدخل أنفق منه على أبنائي الذين لا زالوا صغارا.
* وهناك حالات كثيرة، لنزاع على الميراث امتد من جيل إلى جيل، ومن هذه النزاعات أن وصيا على ميراث أشقائه الصغار استثمر حقوقهم وأموالهم في أعمال تجارية فنمت وأصبحت ثروة طائلة، دون أن يكون هناك ما يثبت حقوقهم هؤلاء الصغار في هذه الثروة النامية، وعندما توفي الوصي وطالب الصغار الذين كبروا بحقوقهم أنكروا أبناؤه ذلك، ونفوا أن يكون الميراث القليل الذي كان أباهم وصيا عليه هو مصدر الثروة الطائلة التي تركها، مع صعوبة إثبات ذلك أو نفيه، لتضيع حقوق الأشقاء وأبنائهم وتشتعل الضغائن والنزاعات بين أبناء العمومة وقد تنتقل من جيل إلى آخر.
المشكلات متنوعة
حول واقع الالتزام بأحكام الشرع في قسم المواريث وبيان أهمية الالتزام بهذه الأحكام، أكد فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن صالح الخضيري القاضي بمحكمة التمييز بالرياض ان المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية وما يفتي به العلماء في هذه البلاد الطاهرة فإنه لا يحيد عن الشريعة قيد أنملة سواء فيما يتعلق بالمواريث أو غيرها من الأمور بقدر المستطاع والحمد لله وتقتبس من نور الشريعة وتتم القسمة في المواريث لدى المختصين في المحاكم الشرعية ومعاونيهم من ذوي القدرة والمحاماة وفق الأصول الشرعية المضبوطة بالكتاب والسنة ولا يظلم - ولله الحمد - أحد بقدر المستطاع.
أما ما يتعلق بأعراف القبائل في بعض هذه البلاد أو في بعض البلدان الأخرى أو حتى لدى بعض الطوائف أو الأطياف عن هذه القسمة الشرعية، فإنه مما يندى له الجبين أن هناك تحريفا ضخما وكبيرا في الشريعة الإسلامية وزيغا عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: فالمرأة في بعض القبائل تحرم من الميراث ويزعم أنه ليس لها حق، وبعض الزوجات الأجنبيات بل وبعض أولادهن من أبناء الذين يتزوجون في الخارج أو حتى في الداخل (زواج مسيار) ويخفون هذا الزواج، وبالتالي إذا خفيت الزوجة ولم يعلم عنها الورثة لا يعترفون بها لمجرد قولها، ولهم الحق ويبقى هناك تداع تضطر المحاكم للنظر فيه، ومرد ذلك أن الزوج لم يوثق النكاح توثيقا متكاملا ولم يضبطه بالضوابط النظامية التي تكفل للوارثة حقها، وهكذا الأولاد وأحيانا ينكر الأب نسب الابن إليه لأنه يشك في سلوكيات أمه لكونها من بلاد لا تحترم القيم التي يحترمها هو ولا ترعى الآداب الإسلامية، فيتزوج مثلا امرأة غربية نصرانية فتنجب له أولادا ومما يندى له الجبين أن هؤلاء الأولاد قد يكونون نصارى تبعا لأمهم، والحكم الشرعي أن الأولاد يتبعون خير أبويهم دينا، لكن في حال ما إذا كانوا بالغين وتبعوا الديانة النصرانية كما هو حال كثير من أولاد العرب في الخارج، فإن هذه هي المعضلة فالأبناء لا يرثون أباهم قطعا. لأنه لا توارث بين مسلم وكافر، هذا إذا كان أباهم قد ثبت على دينه، وأحيانا مع الأسف الشديد يقدمون ما يدل على أن الأب ارتد عن دينه وكفر واعتنق الديانة النصرانية أو اليهودية أو أنه علماني وثني وهنا تعاني الجهات المختصة الشرعية في بعض السفارات في المملكة أو في بعض السفارات في الدول الإسلامية الأخرى من رعايها الذين ينحدرون إلى هاوية الانحراف والردة أعاذنا الله وإياكم منها، وبالتالي يكون هناك زيغ وضلال ويكون هناك انحراف ويكون هناك اختطاف للأولاد والبنات، فإذا مات الأب فلا يعرف مصيرهم هل هم مسلمون أو أنهم غير مسلمين؟ وهل هم وارثون أحياء أو أنهم أموات؟ وقد عالجت الشريعة الإسلامية هذا فيما يسمى (باب المفقود في الشريعة الإسلامية) وجعلوا له أمدا إذا كان غالب عليه السلامة فينتظر إلى تمام تسعين سنة منذ ولد، وإذا كان غالب عليه الهلاك ينتظر أربع سنوات وهذه هي آراء العلماء في العصور المتقدمة وهي آراء جديرة بالعناية والاهتمام، لكن في زمننا هذا وفي ظل تنامي التواصل وإمكانية البحث السريع عن المفقود أو الغائب قد يكون للمحكمة وللقضاء رأي آخر في تحديد المدة.
ويعرب الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري عن أمله بأن تقوم المجامع الفقهية العلمية في العالم الإسلامي بدراسة هذا النوع من القضايا دراسة متأنية وتصدر قرارا واضحا في هذا الشأن ففي حوادث مثل: عبارة السلام، وحادث تسونامي قد عرفنا أن هناك مفقودين لا يعرف مصيرهم إلى الآن وهل هم أحياء أم أنهم أموات وهل وجدوا في الموقع أم انتقلوا إلى موقع آخر، كل هذه أمور برغم الاتصالات والتطور والحداثة والسرعة لم تستطع السلطات التي تهتم بالإنقاذ في تلك البلدان أن توضح حقيقة لذلك الأمر، وبالتالي تجد المحاكم معاناة كبيرة في قضية المفقودة.
العاقبة الوخيمة
وحول ما يحدث من بعض الآباء من بيع أملاكهم إلى أبنائهم الذكور حتى لا يستفيد أزواج البنات من غير أبناء العائلة من ميراثهن، وقد يفعل الأبناء مثل ذلك، فيحرمون أخواتهن من الميراث، وقد يستغل جهل هؤلاء الأخوات بحقوقهن أو عجزهن عن المطالبة بها، يقول الدكتور الخضيري: ليعلم المؤمن أن الله سبحانه وتعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأن الله جل وعلا جعل الديوان الذي يتعلق بالناس من الدواوين التي لا يغفرها الله إلا بوصول الحقوق لأصحابها، أو أنه - عز وجل - كرماً منه وإحساناً يتحملها عنهم تفضلاً ومنه وتوفيقاً ورحمة وإسعادا، ففي هذه الحالة إذا لعب الأولاد أو الرجال الآباء على أزواج بناتهن ولعب الاخوة على أخواتهم فإن هذا الأمر عاقبته وخيمة جداً وهو ظلم عظيم، ودعوة المظلوم لا ترد، وهذا الظلم قد يظهر ولو بعد سنين طويلة فيحصل له آثار سيئة ينتج عنها قطيعة الرحم، وهذا الفعل هو اعتراض على حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ورد حكم الله ورسوله وعدم تنفيذه وعدم الإذعان له، والمؤمن مطالب بأن يسلم الأمر لله قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، فهو مطالب أن يسلم الأمر لله سبحانه وتعالى ويلجأ إليه سبحانه في تحقيق العدل، فيحسن لإخوانه وأخواته الإحسان الذي تطلبه الشريعة ويعلم أن الإنسان الذي يظلم نفسه قد يبتليه الله بأمراض، فنحن نلحظ كما تلحظون أن كثيراً ممن يأكلون أموال الناس بالباطل ويعصون الله فيما أمرهم يبتلون بأمراض فتاكة ويبتلون بصرف هذه الأموال في العلاج ويبتلون بأولاد يمرضون ويعقونهم، هذه الابتلاءات قد تكون نوعاً من العذاب وليست ترقية، فالابتلاء أو البلاء للمؤمن رحمة ورفعة وهو للكافر والعياذ بالله عذاباً معجلاً قال تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}، فقد نهى الله جل وعلا عن ظلم الناس وأكل أموالهم، فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} والله سبحانه وتعالى منع الظلم بكل صوره فقال: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الترمذي وغيره، والملحظ المهم هنا أن الذين يتحايلون على أخواتهم وبناتهم ليحرموهن من حقوقهن في الميراث ويستغلون عدم قدرتهن على اللجوء إلى القضاء فإنهم يرتكبون إثماً عظيماً في حق أولئك المساكين والضعفاء وقد تؤكل أموالهم ولكن يمن الله جل وعلا عليهم بالنصر في الدنيا وفي الآخرة بالإيثار في الدنيا فيؤثرهم الله عليهم وفي الآخرة يبتليهم الله بالعذاب المهين.
درء الحدود
وعما إذا كان ينطبق على من يتعدى على ميراث أخيه أو أخته أو زوجة أبيه أو غيرهم من المستحقين للميراث ما ينطبق على سارق المال؟ وكيفية إثبات حدوث هذا التعدي في ظل عدم وجود مستندات لتقدير حجم الميراث من مال أو عقارات في كثير من الأحيان، يقول الشيخ الخضيري: طبيعي أنه لا يقام على من يفعل ذلك حد السرقة لأن هذا ليس بالسرقة التي تتم شروطها الشرعية لحد السرقة، والشريعة الإسلامية دائماً تتعطش لدرء الحدود لكنه في الوقت ذاته أشد من السرقة نكالاً لأن ظلم ذوي القرابة أشد مضاضة وأنكى، فهنا القضية تأتي من ثلاث زوايا الزاوية الأولى أنه رد الحكم لله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كهذا الذي يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو يعصي رسول الله فيما أمره من إعطاء الحقوق لأصحابها، وبالتالي فإنه لم يحقق هذه الشهادة تحقيقاً كاملاً فقد رد حكم الله ورسوله في هذه الواقعة وهذا الرد عظيم الشأن خطير جداً وعاقبته وخيمة. الأمر الثاني أنه ظلم بكل المقاييس فهو أكل أموال الناس بالباطل وان كانوا يتامى فالأمر أشد خطورة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وإن كان غيرهم فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا قضيت لأحدكم بشيء من حق أخيه فإنما هي قطعة من نار فإن شاء فليأخذها وإن شاء فليدعها). فلا يجوز للمسلم أن يأكل حق أخيه المسلم ظلماً وعدواناً والعقوبة هنا مضاعفة والإثم خطير وكبير جداً، الأمر الثالث أن في مثل ذلك الفعل المشين تشبه بالسارقين من جهة أنه اختلس وهذا يسمى الاختلاس فهو قد أخذ أموالاً وبنى جسمه على الحرام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (رب أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب وقد غذي بالحرام وملبسه حرام ومشربه حرام فأنى يستجاب له) ويقول عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)، فهؤلاء على خطر عظيم وعلى بلاء كبير وعلى شر مستطير ينبغي لهم أن يجتنبوا هذا بقدر ما يستطيعون وأن يتوبوا إلى ربهم ويردوا المظالم إلى أصحابها فإن لم يعلموهم فليتصدقوا عنهم وليسألوا الله أن يتحمل عنهم إياه.
السجل العقاري
وعن الوسائل التي يمكن من خلالها التصدي لما يمكن أن يطلق عليهم (لصوص المواريث)، أكد الدكتور إبراهيم الخضيري: أولاً ينبغي أن يكون السجل العقاري الذي يزمع إنشاؤه في المملكة العربية السعودية الذي صدر نظامه ينبغي أن يطبق على الوحدات العقارية، وأيضاً ينبغي أن يطبق نظام الزكاة ونظام تسجيل الحسابات البنكية وإيضاحها بشكل موثق دقيق وأن تزود المحاكم الشرعية بجهة مستقلة تختص بهذا، بمعنى أن يكون هناك جهة شرعية للمراقبة المالية تتبع وزارة العدل وتقدم تقريراً للمحاكم عند الطلب، فمثلاً إذا كنت أنت لديك حسابات سرية في الداخل أو الخارج ينبغي أن تكون هذه الحسابات موثقة باسمك وبالمعلومات المتكاملة حتى لا يستطيع أحد إخفاؤها، وإذا فرضنا أحياناً يكون الإنسان عقيماً ليس لديه ذرية أو يكون منفرداً منفصلاً عن أهله في بلد بعيد فتكون له أموال ويودعها في البنوك الأجنبية فإذا مات لم يصل أحد إليها فتضيع بل تذهب هذه الأموال مع الأسف للكنائس وهذا من الخطر والبلاء المبين، فينبغي أن ننظر هنا النظرة الشرعية الصحيحة وأن نحافظ على أموال الرعية بالقدر الذي نحفظ به أموالنا نحن كأفراد، فيكون هناك ارتباط وثيق ودقيق بين الحسابات البنكية وضبطها وبين المحاكم الشرعية فمثلاً، إذا مات فلان ترسل المحاكم التي يتقدم الورثة إليها بطلب حصر الإرث ومعرفة الميراث كتاباً إلى تلك الجهة الرقابية وتخبرهم بمعلومات وافية ويردون عليها بأن له حسابات في البنوك الفلانية أو ليس له شيء وعلى ضوء هذا مع المعلومات التي يقدمها الورثة عما تركه من أموال منقولة، أعتقد أننا بهذا يمكن أن نحفظ ثلاثة أرباع الأموال التي تهدر دون معرفة من قبل الوارثين.
القسمة بين الوارثين
من جانبه يؤكد الشيخ الدكتور صالح بن عبد الرحمن المحيميد رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة ان الالتزام بما أمر الله به وترك ما نهى عنه أمر في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم كما قال جل شأنه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.
وهذا على وجه العموم في جميع أوامر الله ونواهيه أما المواريث فهي تدخل في العموم ولها أوامر خاصة بها مثل قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أولادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} بل للفرائض خصوصية تقدير الله لها، فهو سبحانه تولى تقدير الفرائض بنفسه ولم يفوض ذلك لأحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقد بين القرآن الكريم ما لكل وارث من النصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس.
وفصلها غالباً في حين أن الصلاة والزكاة والحج جاءت أحكامها مجملة وبينت السنة المطهرة التفصيل فيها وهذا تنبيه على الأهمية القصوى لهذه الفرائض أو المواريث ولوجود الفروق الدقيقة في نصيب الوارث التي لا يعلمها إلا الخالق اللطيف الخبير.
ولأن قسمة المواريث وقت التشريع تغيير لما كان معمولاً به في الجاهلية، فالميراث في الجاهلية كان على حالة في غاية الظلم والشطط ويوضح ذلك ما رواه ابن جرير في تفسير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: لما نزلت الفرائض التي فرض فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا تعطي المرأة الربع والثمن وتعطي الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينساه أو نقول فيغيره (فقالوا يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئاً) وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ولا يعطون الميراث إلا من قاتل يعطونه الأكبر فالأكبر ولأن هذا الظلم متغلغل في النفوس والمال محبوب حباً جماً، فقد أشار القرآن إلى عقوبة من لا يلتزم بفرائض الله بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم، فقال سبحانه بعد آيات الموارث {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
فالواجب على كل مسلم أن يعلم أن الله قد قسم المواريث بين الوارثين قسمة عادلة وأعطى كل ذي حق حقه وفق نظام دقيق لا حيف فيه ولا شطط كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} وكلما تعمق المسلم في قراءة آيات المواريث واطلع على ما قرره أهل العلم في الحكمة البالغة في تقرير الأنصبة لكل وارث، علم أن الإسلام أحاط هذا العلم بأهمية بالغة فأولاً بين الحقوق المتعلقة بالتركة ورتبها حسب أهميتها ثم وضح شروط الإرث وأسبابه وموانعه ومقدار نصيب كل وارث من التركة ووضح من يرث ومن لا يرث ولم يدع شيئاً يتعلق بهذه الفريضة إلا وضحه وبيَّنه بياناً شافياً للنفوس المؤمنة، قطع به أسباب التنازع بين الناس على الأموال الموروثة فالحمد لله على ما قدر وقضى وهو الحكم العدل الذي قال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
ادرؤوا الحد بالشبهات
ويضيف الشيخ المحيميد: ومن يبيع أملاكه على أولاده القادرين على الشراء ذكوراً كانوا أو إناثاً بيعاً صحيحاً مثل بيعه على غيرهم لا أعلم فيه محذوراً شرعياً، أما من يبيع أملاكه على بعض أولاده دون بعض بيعاً صورياً قصده تمليكهم دون الباقي فهذا ظلم وتعد على حدود الله سبحانه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فمن لم يعدل بين أولاده فقد عصى الله ورسوله).
وعن الفرق بين لصوص المواريث ومرتكبي جرائم السرقة يستطرد رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة: لا ينطبق على من تعدى على ميراث أخيه أو أخته أو زوجته ما ينطبق على سارق المال لوجود الشراكة له في هذا المال وهي شبهة تمنع حد السرقة والسارق حدهما قطع اليد والحد يدرأ بالشبهات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ادرؤوا الحد بالشبهات) فلا قطع على من أخذ من الميراث، لكن يجب عليه رد ما أخذ ويحكم عليه بذلك وإن كان أخذه على وجه المكابرة والاعتداء فيجوز تعزيره بما يردعه هو وغيره من العدوانية والتعدي إذ ثبت تعديه ببينة أو إقرار.
أما مجرد الادعاء بالعدوان فلا يثبت به شيء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعطى الناس بدعاواهم لدعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه).
ويؤكد الشيخ صالح المحيميد أن التصدي للخلاف بين الورثة يبدأ بالتوعية بما يجب على الوارث والمورث فعله، فكل مورث ينبغي له ان يدور ما له من عقار واموال ويضع ذلك عند من يثق به من الورثة أو غيرهم فهذا مهم ليعلم جميع الورثة مقدار مال المورث حتى لا يتصور أحد منهم أن هناك أموالاً قد أخفيت، لأن من الورثة من يدعي على الآخرين أنهم أخذوا مال مورثه في حين أنه لا مال للمورث وهذا يسبب الحزازات والبغضاء بين الورثة، فإذا بين المورث ما له هدأت النفوس وطابت وزالت الشكوك والأوهام، أيضاً على الوارث إذا مضت أيام على الوفاة أن يطلب من المحكمة صك حصر الإرث ثم يتقدم بطلب قسمة التركة، والمحكمة لا شك سوف تقوم فوراً بحصر أعيان التركة وتقسمها على فريضة الله.
ومن أكثر أسباب النزاع بين الورثة أن الوارث يترك حقه يُعبث به ويرضى الأشهر والسنوات ثم إذا ذهب المال أو تدمر أظهر سخطه وطلب حقه وهذا خطأ منه يتحمل مسؤوليته، فإذا كنت أيها الوارث تريد حقك فاطلبه ممن هو تحت يده بعد الوفاة مباشرة، فإن أعطاك وإلا تقدم للمحكمة بدعوى ضده وهذا هو الذي يقطع النزاع ويحول دون تمزق الأرحام.