نتذكر في بعض الأحيان بعض ما قاله شخص عزيز علينا. هذا الشخص قد يكون حياً أو ميتاً، رحم الله موتنا وموتاكم. ومن المعروف أن الخالق منح الكثير من الأمهات في الجزيرة العربية ومنهن والدتي رحمها الله، فراسة المرأة العربية الأصيلة.
والدليل على ذلك مع أنها لم تدخل مدرسة إلا أنها تعلمت من مدرسة الحياة، وحفظت الكثير من سور القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والشعر، والأمثال الشعبية، لدرجة أنني أذهل في كثير من الأوقات واللحظات وفي مناسبات عدة عندما أجدها تقول بلغة سليمة وبعفوية ودون تلعثم الأحاديث أو الأبيات أو الأمثال الشعبية الخاصة بمناسبة ما كنا نتحدث عنها.
وسوف أذكر بعض ما سمعت من الأقوال التي حفظتها رحمة الله عليها وترددها علينا في بعض الأحيان:
بعد موت أبي رحمه الله، سمعت إحداهن تقول الحياة ستكون عسيرة وصعبة بعد مماته، فقالت بعفوية: (تذكروا أن كل عسير إذا استعنت بالله فهو يسير). وكنا نصغي دائماً لنصائحها، لأنها كانت تبدأ نصائحها لنا في بعض الأحيان بقولها: (إن النصيحة أسهل شيء يعطى وأصعب شيء يقبل). وتذكروا أن للألماس ثمنه لكن النصيحة الجيدة لا ثمن لها. وأن الدين النصيحة. وحين ترى أحداً منا يكثر من الكلام تقول: (إذا كان الكلام يا ابني من فضة فالسكوت من ذهب) لأن الإنسان الصامت يستفيد ويتعلم إذا استمع لحديث غيره، ولا يستفيد أو يتعلم شيئاً إذا تكلم هو. كما كانت تكرر قولها لنا: لا تتكلم إلا إذا سألت، ولسانك حصانك إن صنته صانك.
وكانت تقول لبعض أولادها أو أحفادها الذين يجدون صعوبة في بعض الأمور، أو من لا يحب المذاكرة والتعلم: (من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه). كما تقول لهم إذا كنت جاهلاً، وغير حكيم، أو تجهل أمور كثيرة، فعليك بتثقيف نفسك، لأن الفرق بين الحكمة والجهالة هو كالفرق بين الأحياء والأموات. وأن لا مصيبة أعظم من الجهل، وكذلك من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، ومن سعى جنى ومن نام رأى الأحلام، ومن طلب العلا سهر الليالي، ومن طلب شيئاً وجده. وكانت تقول: صنعة في اليد أمان من الفقر، وأن العمل أثمن كنز.
هل تصدقون أنها رحمها الله لم تدخل مدرسة في حياتها، ومع ذلك قالت لأحد إخواني الصغار في أحد الأيام عندما رأته يمزق بعض كتبه بعد انتهاء الاختبارات: احتفظ بكتبك وكون مكتبة، فأحسن جامعة في الدنيا، هي مجموعة كتب تحت متناول يديك.
كما تقول لمن تراه يأتي بأفعال غير مستحبة (شقاوة): كن عاقلاً، فالعقل زينة. وفي إحدى المرات رأت أحدهم يلعب بالكبريت، فقالت له: هل تدري أن شجرة واحدة يصنع منها الكثير من عيدان الكبريت لكن عوداً واحداً يمكن أن يحرق غابة، أو بيوت كثيرة، فمن فضلك لا تلعب بالكبريت بعد اليوم. وإذا زرنا أحد كانت تقول لنا: (إذا كنت عند الناس فاحفظ عينك)، لأن (خير الناس أحسنهم أخلاقاً).
كما كانت تذكرنا بفعل الخير وترك الشر، بقولها: كما تزرع تحصد، فإن فعلت خيراً تجد خيراً، وإن فعلت شراً، سوف لا تجد إلا الشر، لأن ما وراء الشر إلا شر.
وكانت تشجعنا بأن ننفق أموالنا بما يفيد في الدنيا والآخرة، وتقول: انفق أموالك على عمل الخير، لأن الموت آتِ، وكل آتٍ قريب، حيث يقول الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
لذلك بنت مسجداً في مسقط رأسها قبل موتها، رحمها الله والمسلمين أجمعين. وتنصحنا دائماً بالمروءة وبالابتعاد عن الشح، وعدم الحرص، لأن الحريص ليس بزائد في رزقه، والابتعاد عن الغضب، وتذكرنا وتقول: إن هناك ثلاث تفسد المروءة: الشح والحرص والغضب. كما أنني أتذكر دائماً عندما تنصحنا بعدم التكبر أو الحسد أو الغضب بقولها: إياكم والكبر والحسد والغضب والشهوة. وفي أحد الأيام قالت: (إنك تخطو نحو الشيخوخة يوماً مقابل كل دقيقة من الغضب).
وكنا نتحدث عن موضوع عن القناعة والطمع قالت: عز من قنع وذل من طمع، إن القناعة كنز لا يفنى.
كانت رحمها الله تكرر علي القول: تذكر يا بني أن فخر الإنسان بفضله أولى من فخره بأصله، وتذكر أن الفضيلة هي الطريق الأقصر إلى المجد. ومن آمن بالآخرة لم يحرص على الدنيا. ولن يبقى لك إلا الذكر الطيب، ومن زرع المعروف حصد الشكر.
ولحثنا على العمل وعدم اليأس، أتذكر مرة أنها طلبت مني أن أقوم بعمل ما، وأنني قلت لها: هذا صعب ومستحيل أعمل ذلك، قالت لي: جرب، ما أنت ناقص إذا جربت يا بني.
وكانت إذا قال لها أحد منا، لا أقدر، كانت ترد عليه وتقول له: حاول مرة وثانية وثالثة حتى تقدر، لا تيأس، فلا حياة مع اليأس، ولا أحد يدري ما يمكنه أن يعمل قبل أن يحاول.
وفي أحد الأيام كانت تشاهد برنامجاً تلفزيونياً، فقالت بعفوية: (إيه، نحن أبرع في دراسة وحل مشاكل الناس منا في وعي مشاكلنا).
وفي يوم من الأيام طلبت مني أن أقوم بعمل ما فقلت لها تهرباً: لا أعرف، فلا أنسى قولها لي: أنت دكتور ولا تعرف، أجل أنا الجاهلة وش أعمل، روح ابحث وتعلم. لأن أي علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.
وقبل وفاتها، أصيبت بالفشل الكلوي ومع ذلك كانت تقول: (من رأى مصائب غيره هانت مصائبه).
وما أنسى قولها: (طول البال يهدم الجبال)، ومن كلماتها البسيطة، عند ركوبها السيارة معي، وإذا أسرعت، تقول: طول بالك، لا تستعجل، في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
وكلما رأتني أحدث أبنائي كانت تنصحني دائماً بقولها: كن ليناً معهم من غير ضعف وشديداً معهم من غير عنف.
وفي أحد الأيام كنا نتحدث، وكنت منشغل البال لم أستمع جيداً لما كانت تقول، وسألتني ما رأيك؟ فقلت: ما أدري ما أقول، تهرباً من الإجابة، فبادرتني بعفوية وقالت: أساء سمعاً فأساء إجابة. فكان درساً لي أن أصغي دائماً لمن يتحدث معي.
وأخيراً كلما رأتني مهموماً من مراجعة أمانة مدينة جدة، تقول: كل هم إلى فرج، ويفرجها الله. لأنني كنت أراجع بلدية جدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً وتصوروا حتى الآن وأنا أراجع، وكلما تقاعست عن المراجعة تقول لي رحمها الله: (لا يضيع حق وراءه مطالب) وأنا أقول: أنا وأمانة مدينة جدة والزمن طويل، اللهم ألهمني الصبر، وعسى الله يهديهم وينهون معاملتنا ويعطوننا حقنا، هذا مع العلم بأن فيها أمر ملكي صادر منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ودمتم.
abdulmalikalkhyal@hotmail.com