زارني شيخ كبير السن، خطت السنون على محياه آثارها، وزادت في وقاره بإقبالها وإدبارها، فأكرمته ما (استطاعت)، ووقرته بما يستحق. أدنيته مني وسألته بصوت خافت هل من خدمة يمكن أن نقدمها لكم، فأجاب دون تردد، جئت طالباً الزواج بغادة حسناء، (بكرٍ) تناهز العشرين، وإن تعذر ففي الثانية والعشرين، ولدي مهر ترتضيه، ومن الهدايا ما تشتهيه، وأردف قائلاً: أريد أن تساعدني لنيل مبتغاي، وأحسب إن شاء الله في رأيك السداد، فأرسلت معه أحد الزملاء للبحث عن مراده، غير أنه لم يرقه ما رأى. فأخذ المبادرة، وعقد العزم على أن يحمل المهمة على عاتقه، ثم عاد بعد أيام وبيده بغيته، وقال لي: لقد وجدت ما يحقق مطلبي، وسبحان مقلب القلوب فقد أحببتها حباً جماً منذ أن رأيتها، وما أحسبني قادراً على مفارقتها حتى تنهي أوراق زواجنا في يومنا هذا، فاعتذرت بلباقة عن تحقيق مطلبه في الوقت الذي يريد، ثم طلبت منه المجيء في اليوم التالي، فأتى متكئاً على يدها، وطلبت منها الانتظار وأدخلته منفرداً، ورجوته أن يتريث فيما نواه، وأن يحتكم إلى عقله فيما عزم عليه، وسألته عن حبها له، ومدى تعلقها بفؤاده، فاحمر وجهه، ودبت الحياة في وجنته، وقال وهو لا يشك في حقيقة قوله: إنها أظهرت لي من الحب أكثر مما أحمله لها، وإنها بي مولعة وللقِرَان مستعجلة، فقلت له: هل سمعت عن شاعر أندلسي يقال له الغزال، قال: لا، وما شأني به، فقلت إن الشاعر الغزال، كان سفيراً لأحد خلفاء الأندلس، وأرسله الخليفة الأندلسي لبعض سفاراته في بلاد أوروبا، وكان ظريفاً لبقاً حسن المعشر ورأى فتاة جميلة أبدت له شيئاً من اللطافة والميل، وكان قد تجاوز الستين، وليس مثلك قد جاوز الثمانين فقال الغزال في ذلك شعراً: |
قالت أحبُّكَ قلتٌ كاذبة |
غرِّي بذا من ليس ينتقد |
هذا كلام لستُ أقبله |
الشيخُ ليس يحبُّه أحد |
سيان قولك ذا وقولك إنَّ |
الريح تعقدها فتنعقد |
أو أن تقولي النارَ باردة |
أو أنْ تقولي الماء يتَّقد |
وقلت له هل فهمت ما عنيتُ؟ فقال: لا أفهم ما تريدني أن أفهمه وربما فهمت شيئاً منه، فقلت له إن الشاعر الغزال يقول إن كبير السن لا تحبه الغيد الحسان فلا تغتر بما يقلن، وأن قولهن هذا مثل قولهن إنه يمكنك عقد الريح، أي تجعل منها عقدة، أو أن تجعل الماء يتقد ناراً. |
قال هذا رجل قد رحل في زمان قد مضى أما في زماننا فإن النساء قد تغيرن ويرين في الشيخ الكبير بغيتهن خشية مما يسمعن من أفعال بعض الشباب ونزواتهم. فقلت: لكن الشيوخ الكبار في السن لهم نزواتهم، ومنها احتمال الزواج بأخرى، مثلك أيها القادم من مكان بعيد لتتزوج بهذه الغادة على زوجتك، ويبدو أن كلامي لم يرق له. فقال: أنجز حفظك الله أمرنا، ودع عنا نصائحك فقد عزمنا والتوفيق بيد الله. |
داريته مداراة من يستحق المداراة، واعتذرت عن إنهاء موضوعه بالسرعة التي يريدها، وآثرت التريث لعله يعود عما عزم عليه. وبعد ثلاثة أيام اتصل بي أحد أبنائه راجياً ألا أساعده في الزواج، وأن أعيده ما استطعت فهناك أمور لا يعلمها إلا أهلها، لا أحتاج منه إلى إيضاحها، فلست في حاجة إلى ذلك، فللبيوت أسرارها. |
وعملت على إقناعه بالسفر لأن الإجراءات تتطلب بعض الوقت ثم العودة أو التوكيل عند إنهاء الإجراءات. فتململ وتردد، ثم لم يجد مناصاً من قبول العرض، وتنفيذه فقلت له عليك أن تحفظ بيتاً واحداً فقط لابن زيدون وتتمثل به، فهو أولى بك وأجدى، فقد قال في ولادة بنت المستكفي البعيدة عنه: |
لَإِنْ فاتني منْك حظُ النظر |
لأكتَفَيْنْ بسماع الخبر |
فاكتفِ رحمك الله بسماع الخبر، ودع حظك من النظر يفوت. |
ثم قلت في نفسي، ربما لديه من القوة والتمتع بالنساء والاستئناس بمنظرهن ما يجعله يتناسى ما زودته السنين به من حكمة. |
|
في ساعة لو كان لقمان بها |
- وهو الحكيم - لكان غير حكيم |
وبعد أن غادر مكتبي لا أعلم ماذا جرى له فلعله قد تزوج بغادة في بلاده، فحقق مأرباً حرْمُته منه. والله المستعان. |
|