تركز الكاتبة دعاء زيادة في مجموعتها القصصية: (السيب) (دار المفردات للطبع والنشر والدراسات، الرياض، الطبعة الأولى 2007م 77 صفحة) على رصد الأحداث والوقائع الشخصية اليومية، وحين أعني الشخصية هنا إنما أعني الشخصية بوجه عام بحيث لا تنحصر بالضرورة لدى الذات المؤلفة بل لدى الذات الساردة، هذا التركيز يتأدى من خلال كشف بعض العلاقات الوجدانية أو الاجتماعية بلغة سردية مباشرة لا تسعى لاستيلاد استيهامات متخيلة، أو تقع على أفق ترميزي معين، بل تقدم بلون من المفارقة مشاهد متنوعة تتشكل من البحث عن تأويل سردي لحدث ما.
الفقرات السردية قصيرة، والشكل القصصي لدى دعاء زيادة يميل إلى القصر والاختزال، وإلى كتابة القصة القصيرة جدا، وهذا التوجه التعبيري السردي إنما يشي بأن اللقطة في موقف ما، أو المشهد العابر في واقعة ما يكون له تجليه الدلالي الذي يومىء إلى أبعاد أخرى أكثر عمقا وأكثر مفارقة.
فضاء السرد:
تجوس قصص مجموعة السيب التي تتشكل من (23) قصة في فضاء سردي يتمظهر في عدة آفاق يمكن أن نتمثلها في التالي:
- أولا: إعادة قراءة الذاكرة من خلال كتابة مرحلة الطفولة والماضي القريب، وما يتجلى في هذه المرحلة من دلالة الفطرة والبراءة.
- ثانيا: استثمار العلاقات الاجتماعية والوجدانية في الكشف عن مكنونات المفارقة داخل الذات وعلاقتها بالآخر.
- ثالثا: التعبير عن الامتداد الزمني المؤثر للشخصيات، خاصة الشخصيات الأسرية: الجدة، الأم، الأب، الأخ، وتقديم رؤى متعددة للتصرفات اليومية لهذه الشخصيات.
- رابعا: التعبير عن المآزق الإنسانية في مواجهة الواقع من خلال رصد بعض الشخصيات المفارقة.
هذه الفضاءات السردية هي أبرز ما تركز عليه الكاتبة، وتشكل منه عوالمها القصصية الصغيرة الكبيرة في آن معا.
في القصة الأولى: (البلورة) تأخذنا القاصة إلى بعض الوقائع الطفولية من خلال متابعة الطفلة (للرقاصة) التي تقوم بإحياء الأعراس، وما يمكن أن يشكله هذا المشهد من حالة جذب للشخصية خاصة في مرحلة الطفولة، وما يحيط ب(الرقاصة) الاسم الشعبي ل(الراقصة) من اندهاش، وانذهال، ومفارقات.
تستهل القاصة قصتها كالتالي: (الرقاصة (جات ....) الرقاصة (جات ....). كنت أصغي لصراخ الأطفال بالشارع وهم يلهثون خلف عربتها المزينة والمتجهة نحو أحد الأفراح في آخر الحي، وددتُ لو أختلس نظرة واحدة لفستانها المزركش اللامع وأصباغ وجهها الفاقعة كما وصفتها لي زميلتي بالمدرسة ذات مرة، لكن المسطرة الغليظة التي كانت بجور أبي التي لم يرفعها يوما بوجهي تخيفني، في الحقيقة خشيتُ أن ترفع، ويغضب أبي من عدم تركيزي في حل الواجب) - ص 9
فحدث الإعلان والإشهار لمجيء الرقاصة حدث مدو يجذب اهتمام بنت المدرسة، ويجعلها تتألم وتتأمل أسبوعا آخر بعد نهاية العرس في ألوان ثياب الرقاصة، الأب يموت، والأم تلبس ثوب الحداد، ولا تحضر رقاصة أخرى إلا بعد أيام وشهور عند بيت العم الرقاصة تحضر، لكنها بعد أن ارتدت ملابسها الملونة للرقص خلعتها تارة أخرى وارتدت ملابسها العادية، وانصرفت، بعض أول ذلك بأنها انصرفت حين علمت بأن الأب قد مات من أسبوع، وكأنها تضامنت مع هذه اليتيمة التي تشاهد وتتأمل الرقاصات بشغف كنوع من الكشف الذي يجيب عن سؤال الأب: (هل وجدتها تستحق؟).
وتنهي القاصة قصتها نهاية مبدعة: (قضيت ليلتي في غرفة السطح المظلمة عقابا لي على ما فعلته، هكذا حكم علي عمي ولم يملك أحد أن ينفذ غير ما أمر به، لكنني لم أهتم، كان طيف أبي موجودا، كذلك مسطرته الخشبية وكنت أداعب البلورة الزجاجية بأصابعي بينما أردد (ادلع يا رشيدي). ص 14
التأمل هنا سواء على مستوى الذاكرة الطفولية أم على مستوى المفارقة هو ما يصنع جمالية الحدث السردي، ويشكل أبعاده، طيف الأب أو وجوده يشكل نوعا من المحفز على تغيير الحدث أو الفعل السردي باتجاه آخر على غير رغبة الشخصية، فيختفي الفعل أو يتوارى ليحل محله التأمل من خلال البلورة الزجاجية العاكسة للأشياء والألوان، فيما يحدث الصوت - الأغنية الشعبية، نوعاً من التحفيز الساخر - إذا صح التعبير- لوصف المشهد السردي ككل إذ يذهب الفعل، والحدث، ويبقى الصوت مسنونا، حاداً، قابعاً في الذاكرة، ملخصا للرؤية القصصية بوصفها كلا.
هذه الرؤية التي تلوذ بالمرحلة الطفولية - زمنيا ودلاليا - تتواتر لدى دعاء زيادة بشكل ثر في جملة من القصص الأخرى مثل: (الخد الناعم)، (أ...ب ... ت... س)، (على أعتاب الأنوثة)، (خيزرانة).
وهي من خلال هذه القصص تسعى لإعادة اكتشاف هذه المرحلة عبر زمنيتها، وتزمنينها نصيا للتعبير عن هذا المناخ العائلي، وطقس الواقع في تعامله مع هذه المرحلة، فالمعلم الضرير في كتّاب القرية يصر على تعليم تلاميذه مخارج الحروف، والطفلة التي لا تستطيع سوى نطق الثاء سينا تشكل حالة من الخوف والسخرية معا، ومشهد الأم التي تتأمل بشكل مأساوي رحيل صغيرتها ذات الأربعة أعوام يفصح عن تعبيرات سردية مؤثرة: (ضحكة فمها وسنواتها الأربع لا تزال تلون جدران البيت الذي أرخى سدول الهم على ساحته حيث الأرجوحة وغرفة مقفلة على سرير صغير وألعاب واجمة، الطبيب قال: (إنها حمى شديدة أخذت روحها الصغيرة وصعدت حيث الرحمة، ومن عرف براءتها قد آمن أن الملائكة لا تسكن الأرض .. أما هي فكانت غير مقتنعة برحيل صغيرتها، فلا تزال قبلتها الدافئة بباطن يدها وصفحة خدها الناعم يتوسد ذراعها كل مساء). - ص.ص 31-32
وللأم حضور جلي في الفضاءات السردية بالمجموعة، بدءا من إهداء القصة حتى القصص الصغيرة - كما تسميها الكاتبة - أو القصص القصيرة جدا، القصص الفلاشية في الصفحات الأخيرة من المجموعة.
ومن النصوص القصصية التي تعبر بجلاء عن الأم، وكفاحها الممتد لرعاية الأبناء بعد رحيل الزوج حتى تفارق هي الحياة بدورها قصة: (وكنت أما) (ص.ص 40- 41)، وهي قصة مكثفة تستخدم آلية (الفجوات الزمنية) التي سنوضحها فيما بعد في نقل مشاهد متتابعة لسيرة الأم تتشكل من سبعة مشاهد، ينتقل فيها السرد من مشهد لآخر، حيث يضيف كل مشهد دلالة قصصية جديدة، بشكل متراكم، متجاور معا.
ويحسن بنا هنا أن نعرض للقصة كاملة:
1- ما زال يذكر ربطة رأسك الحمراء وليل الكحل في عينيك. صوتك الصباحي الصارم يأمر وينهى هنا وهناك تماما كما عهده منك ..!
2- سجلت لكِ رباطة جأشك وتحجر الدمع في مقلتيك يوم رحيله، الجميع بكاه بحرقة وندبوا حالهم من بعده إلا أنت، فقد جلست في وسط الدار تحملقين في سعف النخيل وكأنك تنهرينه أيضا للبكاء.
3- كان يغيب كثيرا في دروب الرزق، وكنت كما الأسد تحرسين العرين تضعين لكل واحد خطه المستقيم الذي لا يجرؤ على مخالفته ولو سهوا، ولن يحيد.
4- أرقب دفء حنانك ينتشر بطريقته عبر غرف البيت وقلوبهم، وأنت تغنين له- للمسافر البعيد الذي لم يسعفه وقته ليضعك فوق عرش أنت تستحقينه، فتركك وحيدة وأربعة افواه.
5- ولما اشتد عودهم وتفرقت بيوتهم كنت كما أنت وفية لباحة البيت القديم وللنخيل.
6- ربطة رأسك الحمراء، غناؤك الليلي وتلويحة قلبك غيمات تلملمهم حولك وقت الهجير.
7- والآن أصبحتِ كما أصبح ذكرى في قلوبهم، لكنه كان المسافر البعيد، وكنت أما)
تتشكل القصة - وقد قمت بترقيمها وتقسيمها على شكل مقاطع - من سبعة مشاهد، تنتظم بشكل سردي خطي منتظم، تقطعه الفجوات الزمنية بين مشهد وآخر، وقد جاء الضمير السردي فيها موجها إلى المخاطبة، وهو ضمير لا يستعمل كثيرا في القص إلا في داخل السياق القصصي حين يخاطب السارد نفسه أو يوجه الخطاب لآخر. والقصة هنا حين تستعمل هذا الضمير إنما تدخلنا في التو إلى هذا العالم الخاص، إلى مناجاة سردية - معا، فهذه العبارات المكثفة المختزلة، (ربطة رأسك الحمراء، غناؤك الليلي، تلويحة قلبك ... إلخ) واستثمار الفجوات الزمنية بشكل مفارق أحيانا تقودنا لحالة شعرية داخل السرد، خاصة مع تكرار بعض الأفعال الماضية بشكل منتظم، وصنع حالة جدلية بين الماضي والحاضر، والتوصيف الدائم لمشهد الشخصية حيال كل موقف جديد كما يتجلى في مشهد غياب الأب عند السفر وهو المشهد الثالث، أو مشهد مفارقة الأبناء للبيت) ولما اشتد عودهم وتفرقت بيوتهم كنت كما أنت وفية لباحة البيت القديم وللنخيل)، هذا كله يضعنا في التو حيال حالة سردية شعرية، أو ما يسمى ب(شعرنة السرد) وهي آلية تعطي كثيرا من الأبعاد التأويلية خاصة حين يفارق التلقي الحكاية السردية ليصغي أكثر لدلالة الكلمات.
ويشكل فضاء العلاقات الوجدانية والعاطفية هاجسا أثيرا لقصص المجموعة، ولعل هذا الفضاء من أكثر الفضاءات ارتباطا بكينونة الأنثى، خاصة حين تعبر عن الحب أو العشق أو الهجر والفقد والانكسار، وهي حالات شفيفة تصوغها المرأة الكاتبة لتشكل بها نوعا من خصوصية التعبير والبوح في ظل هذه العلاقة، خاصة حين أصبحت المرأة الكاتبة اليوم أكثر اقتراباً وبوحاً وجرأة للتعبير عن عوالمها وحالاتها ومواقفها ورؤاها.
عبدالله السمطي