(الحرية والحق والجمال، والحرية تأخذ الأولوية، لأن الحق مرتبط بتحقيقها، والجمال نتيجة لتحققها)
هذه هي بطاقة التعريف الأولى التي قدمها أمل دنقل (1940-1983م) لعبلة الرويني، زوجته التي قدمت عنه لاحقاً شهادة أخرى: (كان هدفه الأكبر ومطلبه الدائم هو الحرية.. إنها سمة وصراع دائم لتحقيقها، إنها كينونته الحقيقية التي ظل يبحث عنها، ويكسر كل شيء من أجلها، وهي أيضا الغد القادم، والغاية، والمنتهى.. إن الحرية هي المستقبل، قالها يوماً، كأنه لم يحققها بعد). وشهادة ثالثة نحتاجها في هذا المقال القصير: (إن الوظيفة أو المال أو البيت أو الثروة أو أي طموح مادي أو حتى معيشي لم يكن من شواغله، فهمه الوحيد، وطموحه الأكبر، أن يعيش لحظة الإيقاع النادرة بين نثر الحياة اليومية وتوتر الشعر.) فلم يكن الشاعر مؤمناً بالحرية فقط بل كان ضد كل ما من شأنه أن يشكل عائقاً يعرقل حريته في أن يعبر بالطريقة التي يحب.
والحرية هي هَمُ المبدع الأكبر، لأنه يعلم أنه بلا حرية لا إبداع على الإطلاق. حريته في أن يقول ما يؤمن به، وحريته في أن يبشر بما آمن به، وحريته في أن يدافع عن هذا الإيمان أيضاً. ولا شك أن الحرية هي هم إنساني عام، لكن للشاعر قضية مختلفة وأكثر خصوصية لأنه مشغول أكثر من الآخرين بخيال فني وصورة شعرية ووحي ملهم يود نقله للآخرين ضمن موسيقى من الخارج أو الداخل وهو يطلب حريته إذ يمارس هذا كله. كتب أمل:
أيها الشعرُ.. يا أيها الفرحُ المُختلَس..
. . . . . . . . . . .
(كل ما كنتُ أكتب في هذه الصفحة الورقية صادرته العسس..)
وهو اعتراض شعري على العسس في كل مكان، اعتراض تجاوز الورقة لاحقاً إلى حياة كاملة.
وهمٌّ إنساني آخر يسمونه: لحظة التوتر.. لحظة التوتر الانفعالية الحاصلة من حدث ما، حدث يتفاوت الناس في التعامل معه: مع الموهوب تتحول إلى عمل ما قد يتطور إلى إنجاز، ومع غير الموهوب تضيع كأي فرصة أخرى من الفرص التي تبذلها الحياة للإنسان بين روحه وجسده. وأمل دنقل كان قناصاً رائعاً للحظات التوتر هذه، وكان بموهبته الكبيرة محولا لها إلى شعر. وفي هذا السياق علقت زوجته: (كان دائم الهروب من القصيدة، أو لعله دائم التوتر والهروب بها، مرة بالنزول إلى الشارع، ومرة بالشجار، ومرة بالاستماع إلى أغنية أو قراءة كتاب (يبدو هروباً ظاهرياً، لكنه نوع من الاشتغال بالقصيدة داخل أشياء أخرى).
ولم يكن لافتاً للنظر أن أمل دنقل كان قارئاً متميزاً فذلك شديد الوضوح في كل ما كتبه من شعر، كان يقرأ في كل مكان، ويحاور كثيراً فيما قرأ، بل سعى أحياناً إلى كتابة بعض البحوث ليصل إلى قواسم مشتركة بين ما يقرأ في مجالات مختلفة، ولا شك أن لما قرأه انعكاساته المختلفة على شعره، لكن اللافت للنظر هو إيمانه الشديد بالعروبة واستعانته بالمورث العربي في كثير مما كتب رغم أنه عاش مرحلة الانشغال بالفرعونية محلياً، والانشغال بالتراث العالمي المغاير عربياً، لكنه فضل الحديث عن يتم أبي نواس وعن المتنبي في مصر، وعن كليب والزير واليمامة مسقطاً عبر هذه الشخصيات رؤيته الشعرية والإنسانية على ما يحدث في نفسه ومجتمعه، كما شاء أيضا أن يقف بجانب البسطاء والضعفاء من الناس لا ليبكي معهم أو ليبرر أخطاءهم فذلك ليس من مهام الشاعر الكبير، لكنه اختار وقفته تلك لسببين: أولهما أنه منهم، وثانيهما هو أن الشاعر ناقل إحساس بمحاكاته وتجربته وكان نصيب التجربة عند أمل أكبر من نصيب المحاكاة لأنه كان يعبر عن إحساسه وعن رغباته وعن آماله حين كان يصور بشاعريته الفذة حال مجتمعه وبيئته اللصيقة به.
(في اليوم الأول الذي رآني فيه سألني وهو يحدق في وجهي بطريقة غريبة:
- هل تخجلين من الحبوب المنتشرة في وجهك؟
وخجلت بالفعل، وارتبكت من السؤال المباغت حتى بادرني:
- أنا أحب هذه الوجوه.)
يكتبون كثيراً عن الصدق الفني في قصيدة ويغضون الطرف قليلا عن الصدق الإنساني، وأرى أن الصدق الفني يكون في أجمل صوره إن رافقه هذا الصدق الإنساني الذي عبر عنه أمل في عبارته: أنا أحب هذه الوجوه. ولعل هذا يشبه قول العرب: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة. وأي مستأجرة تستطيع أن تقول:
عم صباحاً أيها الصقر المجنح
عم صباحا
سنة تمضي، وأخرى سوف تأتي.
فمتى يقبل موتي؟.
قبل أن أصبح - مثل الصقرِ -
صقراً مستباحاً؟!
عم صباحاً أيها الشعر، عم صباحاً أيها الشاعر، عم صباحاً أيها الإنسان المشغول بالحرية والحق والجمال، عم صباحاً مفكراً ومتغنياً وشاعراً ومحباً في صدق وأمل.