ما وَدَّني أحدٌ إلا بذلت له |
صفو المودة مني آخر الأبدِ |
ولا قلاني وإن كنت المحب له |
إلا دعوت الرحمن له بالرشدِ |
صدق الشاعر فالمودة ضرب من ضروب الإحسان إلى الناس، والإنسان الودود الذي يحسن التواصل معك، فيصلك إن قطعت ويتفقدك إذا غبت، ويزورك إذا مرضت، ولا يترك لك واجباً في فرح أو ترح، ولا يعاتب على تقصير منك ولا يحاسب هذا الإنسان الودود قد لا يكون قريباً ولا صديقاً ولا حبيباً، ولكنه بحسن خلقه ومودته وإحسانه يكون عندك أفضل من هؤلاء جميعاً إذا لم يصلوك بالمودة. فالمودة في القرابة صلة رحم، وفي الصداقة إخلاص ووفاء وفي المحبة جمال لا تستقيم إلا به، والمودة في العلاقات الإنسانية عموماً هي في الأهمية بمثابة ماء الحياة للشجر لا يخضر ولا يزهر ولا يعيش إلا بها، وهكذا الإنسان. |
وأصدق المودة هي المودة الخالصة لوجه الله التي لا ترتبط بمنفعة عاجلة أو آجلة ولا بزمن محدد، فهذا النوع من المودة المؤقتة قد تكون مجاملة لا تدوم طويلاً وقد تكون ضرباً من النفاق سرعان ما ينكشف معدنه الزائف، وكلنا مر بنا في مراحل حياتنا أناس لاحقونا فترة بالمودة والتفقد حتى ظننا أنها لن تنقطع ثم اختفوا فجأة وتوقف كل شيء بانتهاء منفعة أو انقطاع أمل، وهذا النوع يصفه الشاعر: |
كم من أخ لك لست تُنكره |
ما دمت من دنياك في يُسرِ |
متصنِّع لك في مودَّته |
يلقاك بالتَّرحيب والبشرِ |
والمودة في أوسع معانيها حسن الخلق والكلمة الطيبة والإحسان إلى الناس والعطاء المعنوي والمادي، فالرقيق اللين محبوب من الناس، وصاحب الكلمة الطيبة والابتسامة والوجه البشوش محبوب، والسخي محبوب، ولا عجب في ذلك فقد أمر الله من فوق سبع سماوات {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة 83) واتبعها بقوله: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة 195)، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في مسألة العطاء المعنوي (الكلمة الطيبة صدقة) (رواه البخاري ومسلم) وقوله أيضاً (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) (رواه الترمذي)، وفي المودة بالعطاء المادي جاء قول نبينا صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) وفي نتيجة ذلك قال (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار) (رواه الترمذي)، ولما كانت المودة بالعطاء المادي لا يمكن أن تسع كل الناس فقد نبّه نبينا الحكيم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم مبسط الوجه وحسن الخلق) (رواه البخاري). |
ومن هنا نجد أن القوام الحقيقي للمودة هي التواصل الإنساني النزيه بحسن الخلق والتسامح والإغضاء عن العيوب والتماس العذر للناس حتى لا تنقطع الصلة وتستمر المودة، فقد يفنى مال الإنسان ولكن لا يفنى خُلقه. وقد رأينا في حياتنا صلات تنقطع بين أرحام وأصدقاء ومحبين بسبب انقطاع المودة بالعطاء المادي عند الذين يظنون أن المودة لا تتم إلا بهذا النوع من العطاء فإذا نضب معينه جفت ينابيع المحبة والمودة والصلة بينهم، وهؤلاء لا شك مخطئون انعدم في قلوبهم الصدق مع هذا الودود الذي ربطوا محبتهم لمودته بالمنفعة المادية فلا خير فيهم، وقد نجد الخير في أناس لا تربطنا بهم تلك الصلات ومع ذلك نجدهم من أكثر الناس حرصاً على وصلنا ومودتنا وهم الذين قال فيهم الشاعر: |
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم |
ووصفت ما وصفوا من الأسباب |
فإذا القرابة لا تُقرِّب قاطعاً |
وإذا المودَّةُ أقرب الأنساب |
والمودة ليست المحبة كما يظن الكثير من الناس، ولكنها تفتح الطريق للمحبة، وإذا كانت المحبة أمراً ربانياً قد لا يكون للإنسان دخل فيها فإن المودة سلوك إنساني إن يكتسبه، وهذا لا يتعارض مع أن تكون المحبة دافعاً إلى المودة ولكن ليس في كل الأحوال. وبهذا تكون المودة بالمعنى الذي شرحناه سلوكاً إنسانياً ومنهج حياة أكبر وأوسع وأشمل من المحبة والصداقة والقرابة؛ لأننا لا نستطيع أن نحب كل الناس ونجعلهم أصدقاء أو أقرباء ولكننا نستطيع أن نتعامل مع كل الناس بمودة تفتح الباب على مصراعيه للأجمل في العلاقات الإنسانية. وهذا لا يتم إلا إذا نظرنا إلى المودة بصفتها غاية لا وسيلة لأن الوسيلة ينتهي العمل بها بتحقيق الهدف منها أما الغاية فهي مبدأ لا نهاية له. ولعل هذا هو السر الذي جعل الله سبحانه يذكر شرط (المودة والرحمة) في العلاقة الزوجية ولم يذكر (المحبة) في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم 21) لأنه يعلم سبحانه إن لم يستطع الحب يستطع المودة والرحمة. ومما يؤكد أن معنى المودة في القرآن الكريم لا تعني الحب بقدر ما تعني حُسن المعاملة وحُسن الصلة قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} (الممتحنة 7) ثم تأمل قوله تعالى وهو يفرق بين اليهود والنصارى في علاقتهم بالمسلمين: {وَلَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة 82) ولا يمكن أن تعني المودة هنا المحبة بقدر ما تعني الصلة الطيبة والمعاملة الحسنة، وبهذا المعنى تفتح المودة الطريق واسعاً أمام الإنسانية لحياة أفضل يسودها السلام والوئام على مستوى الأفراد ومستوى الأديان والشعوب والأمم. |
|