رحم الله السلف، كان جاهلهم أفقه من بعض علماء هذا العصر، أو مَنْ يدّعي العلم، وأكثر استقراءً وفَهماً للأحكام، بل وأقوى عارضة، وأدق حجة، وأكثر تلطفاً في الخطاب مع (ولاة الأمر)، وربما كانت البيئة آنذاك أكثر استيعاباً وتقبلاً للآخرين مهما كان جنحهم وانحرافهم. وأكرم بذلك السلف الذي تسابق حكامه قبل محكوميه على التفقه بأحكام الدين والاستزادة منه، إيماناً منهم بأن ذلك مما يعزز سلطتهم، ويقوي سلطانهم ويحافظ عليه. |
* كان الشر ولا يزال وسيستمر في صراع مع الخير في الحياة، وقد تبدو أحياناً الفضيلة في ثياب الرذيلة، والنقيض من هذا وارد، وما أصيبت المجتمعات إلا حين جهلت أو تجاهلت الأحداث والمواقف والسير، وسعت فئات من المثقفين في تجهيلهم عن سوء نية. والتاريخ دائماً وأبداً يعيد في نفسه بعد أن تطوي الحياة المعاصرين وشهود العصر، ويلتحفهم الثرى مع من يلتحف. ويبقى استيعاب مجريات حوادث التاريخ جزءاً من تكوين ثقافة الفرد والمجتمعات، وهو الكفيل بتغيير السلوك الحضاري لهم. |
* بصفته (ولي أمر)، ورجلاً من رجال (الحسبة) تسوّر عمر بن الخطاب الحائط أو اقتحمه على مجموعة من الشبان انتبذوا مكاناً قصياً من (المدينة) يتعاقرون (الخمور)، ولم يدر في خلدهم أنهم سيكونون في قبضة سلطان الدين والدنيا، وبمأمن من عيونه. كان باعتقادهم أن الوالي سيسلّم هذه الأمور لأصحابها، فمشاغل الخلافة، وشؤون الحكم جديرة بالالتفات، لكن هذا التصور خلاف منهج (الخليفة) الفاروق. |
* ولم تكن الحالة التي كان عليها أولئك الشباب، والأجواء التي يعيشونها في المجتمع المدني لتصرفهم عن التفقه بالدين، ومعرفة الأحكام، فوظّفوا مخزونهم الثقافي في ذلك الموقف العصيب، أمام رجل اتسم بالحدة والصرامة بالحق، ليعلنوا أمامه وبكل جرأة انتهاك (الفاروق) الحرمات الثلاث، عدم الاستئذان، والدخول من غير الباب، والتجسس. هذا ما أورده (الشاعر) على لسانهم حين قال: |
|
مكانك قد جئنا بواحدةٍ |
وجئتنا بثلاثٍ لا تباليها |
فأت البيوت من الأبواب (يا عمرٌ) |
فقد يزنُّ من الحيطان آتيها |
واستأذن الناس أن تغشى بيوتهمُ |
ولا تُلم بدارٍ أو تحييها |
ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت |
بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها |
فعدت عنهم، وقد أ كبرت حجتهم |
لما رأيت كتاب الله يمليها |
* من غير (الفاروق) يمكن أن يُكبر هذه الحجة، ويقنع بالدليل، ويعود عن العقاب؟ ومَن غيره جمع بين السياسة، والفقه، والفتوى، والاجتهاد؟.. هكذا كانت عقلية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الحافظ لحدود الله، الذاب عن أعراضهم، الحاكم بميزان العدل بينهم. كان ذلك الموقف العظيم ورجال (الحسبة) من حوله يمتثلون أوامر (ولي الأمر)، ويحظى اجتهاده ورأيه بالتقدير والاحترام، من غير إرجاف، أو تأويل، أو افتراءٍ، أو تكذيب، أو غيبة، أو نميمة. |
|