تشحذ النفس بالمشاعر حين تباغتها الدوافع... وقد كانت (البنات) المنتشرات في الجامعة... وفي المجتمع من القارئات المتابعات يباغتنني بكثير من قضاياهن إما بالكتابة لي أو بزيارتي أو مهاتفتي...ولا يزلن... وحين أستمع لهن أجد أن مشكلاتهن منبثقة أساساً عن وجود فجوة عميقة بينهن وبين أمهاتهن وآبائهن... أو بينهن وإخوانهن... ومن هي متزوجة منهن في مقتبل العمر تواجه النماذج ذاتها حيث تذهب...ولقد كانت غالبية الموضوعات تندرج تحت (التفرقة في تعامل الأسرة بين الولد والبنت)...و(تزويجهن بلا استشارتهن)...أو (التعامل معهن بقسوة من قبل الذكور في الأسرة)..أو (التغاضي عن آرائهن في أمور الحياة الأسرية) بمعنى عدم تقدير دورهن ووجودهن في الأسرة... أو (الحجر عليهن وحرمانهن مما تتطلبه مراحل نموهن ونضجهن...) ناهيك عن (سطوة الإخوة الذكور بتأييد من الوالدين)...
و(الإجحاف في عقوبتهن) حين مواجهة أي تصرف لا يقابل قناعات الأب أو الأم أو العم أو الأخ فيدخلونه في قائمة الأخطاء التي تؤدي إلى ضربهن أو تعزيرهن بحرمانهن من الدراسة أو تزويجهن أو حتى إيقافهن عن ممارسة حياتهن الطبيعية...
البنات كن يبكين على الورق أو على الهاتف أو حتى في مواجهة اللقاء...
لم تكن قضاياهن قبل عقد ونصف تقابل قضاياهن في المرحلة الراهنة...
أفردت لهن في زاويتي (البعد الذي يغيب) عنواناً - حزن البنات - تناولت فيه ما يتطلب نهضة وجدانية عقلية من قبل الأولياء...فقد كثر التذمر والتيه وعدم الإحساس بالأمان والخوف والإقبال على النفور بأوجه عديدة من السلوك...وكان لزاما أن يتكافل أفراد الأسرة من ذوي السلطة من الآباء والأمهات والإخوة والأعمام وسواهم على أن يعيدوا التركيبة في ترتيب أوليات الأدوار ومن ثم أولويات الواجبات نحو أفراد الأسرة , فقد أدى سلوكهم ليس فقط إلى الحزن والانكماش وعدم الثقة بل إلى التمرد لدى كثيرات , وإلى الانحراف لدى جملة منهن... وكان لابد الانتباه إلى منعطف التغير لاسيما في مقابل متغيرات المجتمع العامة تلك التي أول ظواهرها الممنوع الذي أصبح في المتناول والمخفي الذي برز للسطح بدخول المجتمع لفضاء الإعلام المفتوح ووسائله المتاحة في البيوت.. بعد أن أصبح لا ضابط ولا مانع... فالفتاة التي لم تكن ترى غير أهلها وزميلاتها وبعض مجلات وبرامج مقننة في قنوات داخلية أو وسائل تحت إرادة الأهل أصبحت تتحرك وكل شيء من حولها متاح...بل الفتى أيضا...
وبدل أن يكون التكافل المنشود لمواجهة ضغوط أفراد الأسرة المنبثقة من ثقافة تربية تقوم على التمييز بين الذكر والأنثى أصبح منشودا لمواجهات أكبر على الأقل للحفاظ على قيم أصيلة لا ينبغي التفريط فيها...
وتداخل المتغيران تداخلا مدهشا وسريعا لاسيما بعد أن اتسع الخرق وأصبحت الهواتف قطعة معدن صغيرة في مخبأ الفرد تتحرك معه حتى في ثقوب الحجر... ومن ثم بعد أن دخل الفضاء الإلكتروني عقر الحجرات الخاصة ومسارب الدروب...
فأي حزن وأي بلسم...؟ وما التكافل المنشود والبنات لم يعدن وحدهن الحزينات بل الشباب أيضا يحزنون...؟ فالريح عمت والصدور أصابتها غمة فمن يتنفس ومن يستنشق ما ينعش...؟
***
حين بدأت كتابة - حزن البنات - انهمرت أحزان الشباب بل الرجال والنساء...وأخذت الموضوعات وجها آخر.. خرجت عن محاور التعامل والمواجهة والحرمان والتحيز والانصراف والتفرقة والسلب والقسوة والسطوة وكل الذي تشعر به البنات...إلى محاور أخرى تشمل فرص الزواج وحقوق الطلاق وإجراءات الحقوق الخاصة.. وفرص المعاش وكسب الرزق.. وقلة اليد والحاجة للعمل... وغلاء المهور... وصعوبات توفير السكن... بل من الرجال من يشكو خديعة الوصف ووقوعه في زوجة لا تلائمه.. والمرأة تتذمر من رجل ليس يناسبها... واتسعت القضايا لتشمل الخنوع للتحيز القبلي وما يجري من ظلم على الطرفين... وعدم اتخاذ المبدأ الديني عند الزواج القائم على الرضاء بصاحب أو صاحبة الدين وتقديمهما على أي اعتبارات أخرى... وشملت قضايا الأبناء بعد الطلاق أو عند الشجار وحرمان الأم من أبنائها... وإطالة القضايا عند عرضها على المحاكم... وخروج المرأة غالبا بخفي حنين... كما شملت الموضوعات تدخل الأهل وعدم وجود القربى الساعين في الخير... ولم تقف موضوعات القراء من الجنسين عند هذا بل وصلت إلى تذمر كثير من الأبناء والزوجات من الحلول التي يتخلص بها الأولياء منهم بشكواهم على الجهات الأمنية... مما أدى إلى هروب الأبناء وتسرب الطلاب منهم من المدارس أو إحداث الشغب حيث يكونون...
***
تناولت الكثير من تلك القضايا في سنوات طويلة بأساليب مختلفة... واقترحت إنشاء لجنة أو هيئة أو مركز يكون من مختصين في خدمة المجتمع والإرشاد النفسي والفردي و الطبي والديني والأمني تحال إليها جميع الحالات للتكافل في التصدي لحل المشكلات ورد الحقوق والفصل في القضايا وعلاجها... وتبنت وزارة الشؤون الاجتماعية قبل سنوات مثل هذا المقترح.. كما قام أفراد بنظيره... وانتشرت مراكز كثيرة في الآونة الأخيرة بعضها نظامي وآخر خاص كما نمى لسمعي... وبقيت البيوت ومؤسسات العمل وأروقة المجتمع بل طرقه ومخابئه مليئة بمشكلات الأفراد من الشابات والشباب...ولا تزال مظاهر عديدة تدعو للحزن وتستنهض المشاعر وتشحذها بدوافعها... تنشد التكافل الواعي من ذوي الإيمان والمعرفة.
لكن يبقى هناك أساسا أولَّ هو تكوين الأسرة الصالحة منذ بداية الاختيار لطرفيها... وهو محور على الجميع النظر إليه كمنطلق تُضمن به نشأة سليمة للنشء وُتدارك به أمراض التربية وثغراتها حين نتقي أمراض السلوك الفردي للآباء والأمهات...
ولعل هناك من تصدى بتكافل ذي أسس قويمة لمثل هذا... (يتبع)